منذ اسبوعين تعيش مدن غرب ليبيا تطورات عسكرية خطيرة، مليئة بالكر والفر والهجمات بالطائرات التركية المُسيرة عن بعد، وقوافل المرتزقة السوريين المشمولين برعاية الرئيس التركي، وصور القتلى منهم والاسرى تشى بمدى عنفهم ولا جهد لهم سوى ممارسة الموت والخراب والعمالة والدونية الإنسانية. ولا يخلو المشهد من بعض شهداء للجيش الوطني الليبي الذى تتواجد بعض كتائبه بالقرب من العاصمة طرابلس، والتي تعرضت لهجوم كبير مدعوما بهجمات طائرات تركية في عدد من مدن الغرب الليبي كصبراته وصرمان ومليته وثلاث مدن أخرى، حيث باتت تحت سيطرة مليشيات ومرتزقة حكومة السراج والتى عاثت فيها فسادا ودمرت المبانى العامة ونهبت مواردها، وارتكبت جرائم حرب بحق أهل تلك المدن.
ثم تحول مسار الهجوم إلى مدينة ترهونة، جنوب غرب العاصمة طرابلس بحوالى 75 كم، والتى تعد بمثابة نقطة ارتكاز رئيسية لقوات الجيش الوطنى فى الغرب الليبى، مستهدفة السيطرة عليها، وحرمان الجيش الوطنى ميزة استراتيجية كبرى. وقامت الطائرات التركية بقصف قاعدة عقبة بن نافع التابعة للجيش الوطنى فى منطقة الوطية على بعد 140 كم جنوب غرب طرابلس فى اتجاه الحدود مع تونس بهدف حرمان الجيش الليبى من قدراتها العسكرية ولاسيما الجوية. وكلها تطورات خطيرة لم تحسم بعد، ما دام العدوان التركى مستمرا، وما دام الصمت الدولى مخيما على الجميع. وما زال الجيش الليبى يصد هجمات المرتزقة السوريين واحدة تلو أخرى بدعم من شباب قبائل ترهونة، والتى تعد بمثابة خزانا بشريا داعما لحملة الكرامة فى مواجهة عمليات بركان الغضب الإخوانية التركية. وهى أيضا موقع استراتيجى مهم للانطلاق نحو تحرير كامل العاصمة طرابلس من المسلحين والمرتزقة الذين يحتلونها بوصاية تركية وخضوع حكومة السراج. فضلا عن كونها مدينة تجارية كبرى تتوافر فيها الغذاء ومختلف السلع والمنتجات الزراعية، ما يجعلها موردا مهما للمقيمين فيها والقوات الوطنية التى تحميها. ولذا لا سبيل أمام قوات الجيش الوطنى الليبى سوى الدفاع عنها والتمسك بها مهما كانت التضحيات.
الانشغال الدولي بمواجهة وباء كورونا وتقاعس الأوربيين فى تطبيق عملية “ايرينى” لمنع انتقال المرتزقة السوريين والأسلحة التركية الى حكومة السراج تطبيقا للمقررات التى توصل إليها مؤتمر برلين مطلع العام الجاري، حفز الرئيس التركي على استغلال الهدنة المعلن عنها مطلع مارس الماضي لإعادة بناء توازن عسكري جديد فى الغرب الليبي ينهى التواجد العسكري لقوات الجيش الليبي وإفشال مهمته الوطنية فى تحرير العاصمة طرابلس من ميليشيات الارهاب والمرتزقة والاحتلال التركي. وفى ظل وضع كهذا لم يعد متصورا أن تبدأ عملية سياسية بأى شكل كان، فالقتال وتغيير الوقائع على الأرض تعد استراتيجية للمتحاربين من أجل تحقيق مكاسب على حساب سيادة ليبيا ومواردها. كل ذلك يحدث فى ظل صمت البعثة الأممية التي تعمل بلا رئيس منذ استقالة رئيسها غسان سلامة، وكل ما لدي مسئوليها كلمات جوفاء لا تغنى ولا تسمن من جوع. واقوى ما صدر عن البعثة مجرد مناشدة لوقف القتال للتفرغ لمواجهة وباء كورونا، لم يهتم بها أحد، كما لم تقم القوى الكبرى بأي رد فعل جاد ضد التدخلات التركية الصارخة فى الشأن الليبي، فضحتها عمليات نقل المرتزقة والإرهابيين على الملأ وبدون خجل أو موارة من سوريا إلى ليبيا عبر تحركات مكثفة للطائرات التركية وسفن البحرية التركية، ناهيك عن تدخلات إيطالية غير مفهومة عبر دعم تقنى لعمليات ميليشيات السراج العسكرية ضد الجيش الوطني، وضد الشعب الليبي بأسره.
فى الأسبوعين الماضيين لم تكف وسائل الإعلام التركية الناطقة بالعربية كجزء مهم من الحرب النفسية، عن الاشادة بالخطط الشاملة لمرتزقة السراج السوريين لدحر الجيش الليبي وصاحبتها فى الجوقة نفسها قناة قطر، وعدد من الصحف الصادرة فى لندن الممولة من الدوحة. ولم يقتصر الأمر على تزييف مما يجرى على الأرض، بل والتبشير بدحر كل قوات الجيش الليبي في عشرة أيام، سواء في ترهونة أو فى سرت أو بعض مدن الشرق الليبي. وهو موقف يبدو طبيعيا فى ضوء التحالف الإرهابي الذي يجمع بين تركيا وقطر ويلقى بثقله الأسود في العديد من الازمات العربية، وفى قلبها الأزمة الليبية. وفى المقابل لا يجد الجيش الوطني الليبي الدعم العربي الإعلامي المناسب في معاركه الأخيرة، بل أن بعضا من الدول القريبة من ليبيا تمارس الصمت تجاه التدخل التركي الفج والمرتزقة السوريين الإرهابيين حسب التصنيف الأممي فى بلد مهم للأمن والاستقرار فى عموم شمال إفريقيا.
التغير في معايير الأمن القومي والإقليمي على هذا النحو لدى بعض الدول يفتح الباب مُشرّعا أمام المزيد من المغامرات التركية والتي لن تتوقف عند حدود ليبيا وحسب، فمن بنى سياسته الخارجية على التمدد وتشكيلات المرتزقة والإرهابيين، والذى لم يخفى نزعته الاستعمارية والتدخل المباشر لاحتلال أراضي الغير بدون وجه حق كما هو الحال في شمال شرق سوريا، والإغارة على سيادة الدول المجاورة له كما حدث مؤخرا فى العراق، وحتى البعيدة عنه، والذى يتصور أنه يبعد أزمته الداخلية وفشله الذريع في حماية شعبه من وباء يقتل كل يوم المئات ويصيب الألاف من خلال التورط في مغامرات عسكرية خارجية، لن يتوقف عند ليبيا، ومن لا يقدر هذه العقلية الاستعمارية فسيناله الكثير من الضرر، ومن يتصور أنه يستطيع التعايش مع تلك السياسات الاستعلائية وسيكون بمنأى عن تداعياتها فهو بحاجة الى مراجعة أفكاره وتصوراته، وحساب المكاسب التى لن تحدث والخسائر التي ستحدث حتما ان استمر تجاهله لتلك الحقائق المريعة.
المراجعة المطلوبة ليست فى التغاضي عن التدخلات التركية أو تجاهل نتائجها الكارثية الآنية والمستقبلية، بل فى الوقوف ضدها بكل حسم. المطلوب تحرك إقليمي فعلى لإفشال المغامرة التركية بكل ما يمكن من جهد وطاقة، سياسيا وعسكريا ودعائيا. الوقوف مع تحرير الشعب الليبي من الميليشيات المسلحة وجماعات الإسلام السياسي ومرتزقة اردوغان السوريين هو الطريق الوحيد لبناء أمن إقليمي حقيقي في شمال افريقيا ومنطقة الساحل والصحراء. اللعب على الحبال ليس خيارا، بل هو كارثة بكل ما تعنيه الكلمة.