بعد أقل من خمسة أشهر على تشكيلها، انهارت الحكومة التونسية، الأسبوع الماضي، بعدما قدم رئيسها، إلياس الفخفاخ، استقالته عقب تزايد الضغوط في البرلمان للإطاحة به بسبب شبهة تعارض مصالح. بالتزامن مع ذلك، شهد البرلمان التونسي تقديم “لائحة اللوم” تطالب بسحب الثقة من الحكومة، تحمل توقيع 105 نواب، بينهم كتل النهضة (54 نائبا) وقلب تونس (27 نائبا) وائتلاف الكرامة (19 نائبا). ولو استمر مسار سحب الثقة من داخل المؤسسة التشريعية لكان لحركة النهضة الحق في ترشيح رئيس وزراء جديد، لكن الفخفاخ قطع الطريق امام هذه المساعي وأقال ستة وزراء من حركة النهضة بالتزامن مع تقديم استقالته لرئيس الدولة، ما يعني بقاء ورقة التكليف بيد قصر قرطاج، ومنح قيس سعيد موقعا قويا في اختيار الشخصية المناسبة للمرحلة المقبلة.
أمام الرئيس التونسي، 10 أيام فقط، من تاريخ استقالة الفخفاخ، من اجل تسمية مرشح جديد لمنصب رئيس الحكومة، الذي يتعين عليه تشكيل الحكومة في اجل أقصاه شهر واحد. وقد طلب قيس سعيد من الغنوشي مده بقائمة الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية، قصد إجراء مشاورات معها، بهدف تكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة، حسبما يقتضيه الدستور التونسي. لكن يبدو أن ذلك لن يكون بالأمر الهين، فالرئيس التونسي امام تحدي إرضاء أكبر عدد من الأحزاب في البرلمان. ويتوقع أن يقترح شخصية لا تختلف كثيرا عن شخصية الفخفاخ، من حيث تجرده من الانتماء الحزبي، وامتلاكه خبرة كافية في العمل الحكومي، وقدرته على العمل مع وزراء من مشارب مختلفة.
المشكلة أن البرلمان التونسي يعاني انقساما حادا بين أحزاب متنافسة، في وقت دخلت مكونات الائتلاف الحاكم مرحلة من الصدام بشكل هز الثقة فيما بينها. ويواجه رئيس البرلمان راشد الغنوشي، تصويتا من اجل سحب الثقة. كل ذلك ينذر بفشل الطبقة السياسية في تجاوز الأزمة الحالية، وربما قيادة تونس الى أتون أزمة سياسية، في وقت تعاني فيه من مشكلات اقتصادية واحتقان اجتماعي تفاقم بسبب جائحة “كوفيد-19”.
ما يزيد من تعقيدات المشهد التونسي هو كون المؤسسات الأربعة التي طالما شكلت صمام امان؛ وهي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين؛ لم تعد بنفس القوة والوزن الذي كانت عليه في 2013 عندما أخرجت الدولة من الازمة السياسية التي عصفت بها وقتها.
ومع استقالة حكومة الفخفاخ، يبدو أن الازمة ستبقى كما كانت عليه، أن لم تزد تعقيدا، ما دامت نفس المكونات البرلمانية والكيانات السياسية تتعاطى مع الأحداث والمتغيرات بنفس العقلية وبنفس الحلول. والاغلب، أن الشخصية التي سيتم تكليفها بتشكيل الحكومة لن تستطيع تجاوز حركة النهضة، التي رغم كل شيء تبقى رقما صعبا في السياسة التونسية. وإذا كان الفريق الحكومي لن ينال التزكية إلا بـ109 أصوات في البرلمان فما فوق، فهذا النصاب يصعب أن يكتمل بدون النواب 53 للنهضة وبدون توسيع الائتلاف لضمان حصول التزكية.
من هذا المنطلق، سيشكل القائمين على “لائحة اللوم” لسحب الثقة من الفخفاخ، ترويكا جديدة تضم النهضة وقلب تونس (الذي سبق ورفض رئيس الدولة مشاركته رفضا قاطعا) وائتلاف الكرامة وربما كتلة المستقبل ونوابا مستقلين. بينما سيتحول حلفاء الأمس الذين يقودون حملة سحب الثقة من الغنوشي إلى صفوف المعارضة وهم التيار الديمقراطي والشعب وتحيا تونس والإصلاح.
لن يكون من المستبعد أن تحاول حركة النهضة تعطيل تشكيل الحكومة الجديدة، إذا لم تتمكن من الظفر بالحقائب الوزارية التي تطمح إليها، لكن دون أن يصل الامر الى جر المسار الى الطريق المسدود واجراء انتخابات سابقة لأوانها، لأنها تعلم جيدا انها غير مستعدة لهذه الخطوة في الوقت الراهن، بسبب تضاءل شعبيتها، وكونها لم تخرج بعد من انتكاسة الانتخابات الأخيرة التي حصلت فيها على خمس أصوات الناخبين فقط، وهي أضعف نتيجة لها منذ دخولها معترك الساحة السياسية بعد 2011.
ومع ذلك، في حال عجزت الحكومة المقبلة عن نيل ثقة أغلبية النواب خلال 4 أشهر، فإن الدستور يعطي لرئيس الدولة إمكانية حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية، يرى البعض أنه ربما ينبثق عنها برلمان أكثر تجانسا وحكومة أكثر استقرارا وقدرة على تسيير شؤون البلاد. لكن الواقع يقول إن تنظيم هذه الانتخابات، بالقانون الانتخابي نفسه، يمكن أن يعيد إنتاج نفس المشهد السياسي، وربما بتعديلات بسيطة. وهذا الامر يمكن أن يعيد في كل مرة المشهد الى مربع الصفر، إذا لم يتم تعديل هذا القانون، أولا.
لا شك أن تونس تمر بواحدة من أسوأ ازماتها على الاطلاق. وسيكون على الفرقاء السياسيين تجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر وبأكبر قدر من الوطنية من اجل اعلاء مصلحة الوطن، ومن اجل احتواء الاحتقان الاجتماعي الذي بدأ يأخذ منحى تصاعديا، ومكافحة الفقر الذي أصبح يهدد السلم الاجتماعي.
نقلا عن جريدة الأهرام، 23 يوليو 2020.