انحصرت الجرائم المنظمة قديما في عدد محدود من الأشكال ونطاق ضيق من التأثير كجرائم قطع الطرق والقرصنة البحرية وأعمال الإغارات الجماعية. إلى أن أدى التقدم التكنولوجي إلى ظهور صوراً أخرى للجريمة المنظمة العابرة للحدود مثل تجارة المخدرات وتبييض الأموال والاتجار بالبشر وأعضائهم والاتجار بالنساء والاتجار غير المشروع في الأسلحة والذخيرة والمتفجرات فضلا عن الجرائم السيبرانية. الأمر الذي تضاعف معه خطر الجريمة المنظمة العابرة لتصبح خطرا جسيما يهدد الأمن الوطني والدولي على السواء من خلال نشر الرعب والفوضى والقتل من جانب، واحتكار الأسواق وسرقة الثروات من جانب آخر، إضافة إلى تزايد قدراتها على التجسس على الأجهزة الأمنية والسياسية والمالية والإدارية داخل الدول.
أتاح الفضاء الإلكتروني لعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود ساحة جديدة لممارسة جرائهما بشكل أكثر دقة وأقل تكلفة، الأمر الذي أدي إلى تمدد دورها وتزايد تأثيرها. ومن بين أهم الاستخدامات: (تحسين كفاءة العمليات – تأمين اتصالاتها – تجنيد أعضاء جدد – تبييض وغسيل الأموال). وهو ما استدعى اعتبار الجريمة المنظمة العابرة للحدود ضمن أنماط التهديدات الأمنية غير التقليدية، وكذا إدراج جماعات “الجريمة المنظمة العابرة للحدود” ضمن الفاعلين من غير الدول الذين باتت لهم موارد تكاد تتجاوز اقتصادات بعض الدول، فضلاً عن ذيوع نفوذهم داخليا ودوليا. أشار تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في عام 2012 إلى أن التكلفة المادية للجريمة المنظمة العابرة للحدود بلغت نحو 870 مليار دولار سنويا، وأوضح أن هذه القيمة تضاهي نحو 6 أضعاف المساعدات الإنمائية الرسمية، وتصل إلى 1,5% من الناتج المحلي العالمي، وتقدر بنحو 7% من الصادرات العالمية من البضائع. ورغم تأكيده على صعوبة حصر الخسائر البشرية إلا أنه أكد على إزهاق ملايين الأرواح جراء الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
واستنادا على ذلك؛ فإن مجابهة ظاهرة الجريمة المنظمة العابرة للحدود لن تتم من خلال الآليات التقليدية فقط، وإنما لابد من تطوير أدوات وآليات للتعامل معها في ساحتها الجديدة – أي الفضاء الإلكتروني. لذلك؛ شكل الأمين العام للأمم المتحدة -كوفي عنان- في 2004 فريقا دوليا لدراسة قضية الانترنت. كما قامت الأمم المتحدة – في أعقاب مؤتمر “منع الجريمة” الثاني عشر- بإنشاء فريق خبراء حكومي دولي مفتوح العضوية لدراسة جرائم الانترنت، والنظر في كيفية استجابة الدول الأعضاء والمجتمع الدولي والقطاع الخاص لها. ويعزز مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة قدرات مكافحة جرائم الانترنت على المدى الطويل والمستدام من خلال دعم الهياكل الوطنية وعملها، معتمدا على خبرته المتخصصة في نظم العدالة الجنائية وذلك لتوفير المساعدة التقنية في بناء القدرات والوقاية والتوعية، والتعاون الدولي. وعلى الجانب الآخر؛ صدر قرار لجنة مكافحة المخدرات 48/5 حول تعزيز التعاون الدولي من أجل منع استخدام شبكة الانترنت لارتكاب الجرائم المتصلة بالمخدرات. وأخيرا؛ تجري الأمم المتحدة مداولات بشأن المبادئ الأساسية لمعايير سلوك الدول في الفضاء الإلكتروني، من خلال مجموعة خاصة من الخبراء الحكوميين. تمت صياغة هذه المبادئ جزئيًا من خلال مبادرة طويلة الأجل، مدعومة من روسيا والصين، للموافقة على معاهدة دولية تنظم استخدام الفضاء الإلكتروني. أما عن الجهود متعددة الأطراف يأتي على رأسها معاهدة بودابست 23/11/2001 التي تضم 26 دولة أوروبية إضافة إلى كندا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وختاما؛ يمكن القول بشكل عام أنه على الأرجح سيشهد المستقبل تزايد واتساع في حجم ونطاق الجرائم المنظمة العابرة للحدود رغم كل الجهود السابق الإشارة لها. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود قواعد دولية لاستخدام واستغلال الفضاء الإلكتروني، وعدم وجود اتفاقية دولية تضم كل الدول وتكون بمثابة المرجعية في هذا الصدد. لذلك فلابد من وضع قواعد لاستخدام الفضاء الإلكتروني تكون ملزمة لكافة الدولة. فضلا عن توقيع اتفاقية دولية خاصة بمجابهة استغلال الفضاء الإلكتروني في الجرائم المنظمة العابرة للحدود بكافة أشكالها، حيث أن عدم وجود اتفاقية دولية سيضعف من الجهود الثنائية والجماعية والإقليمية في هذا الصدد.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية