شكلت القمة العربية التى انعقدت فى مدينة جدة السعودية الجمعة الماضية تحولا نوعيا فى مسيرة العمل العربى المشترك، وفى مسار القمم العربية لما حملته من دلالات عديدة ورسائل مهمة.
أولا: انعقدت القمة فى سياق عربى جديد، حيث استعادت المنطقة العربية جزءا كبيرا من عافيتها الاقتصادية والسياسية والأمنية بعد عقد من الصراعات والأزمات والنزاعات المسلحة الداخلية فى بعض الدول العربية، وتصاعد خطر الإرهاب، وتزايد أعداد اللاجئين والنازحين، وتزايد التدخلات الخارجية، وتحول المنطقة لساحة لصراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، وهو ما أنهك الجسد العربى وجعله عليلا. لكن استطاعت دول القلب الصلب (مصر والسعودية والإمارات ودول الخليج الأخرى)، أن تعيد ترتيب الأولويات وتغيير مسار التفاعلات باتجاه تعظيم المصالح العربية، وتسوية الأزمات، وتصفير المشكلات مع دول الجوار، وتنقية الخلافات العربية البينية، وهو ما أسهم فى استعادة زمام الأمور، وتبريد الصراعات العربية، وزيادة الدور العربى فى إدارتها وحلها بعد تزايد الأدوار غير العربية فى السابق، مما أدى إلى تعقيد تلك الأزمات وإطالة أمدها، وسيطرة حالة اللاحسم السياسى والعسكرى عليها، ودفع العالم العربى تكلفة باهظة سياسية واقتصادية وبشرية ومادية نتيجة لهذه الأوضاع.
ثانيا: جاءت القمة فى سياق حالة الزخم الكبير التى يشهدها العمل العربى المشترك، وتعزيز التعاون بين الدول العربية والحفاظ على النظام الإقليمى العربى، وقد انعكس ذلك فى عودة سوريا للجامعة العربية بعد غياب أكثر من 12 عاما وحضور الرئيس السورى بشار الأسد للقمة وهو ما أنهى الوضع الاستثنائى الذى كانت تعيشه سوريا وأعادها إلى وضعها الطبيعى كجزء مهم من الجسد العربى، وهو ما سيكون له مردود إيجابى على العالم العربى بشكل عام وعلى سوريا بشكل خاص مع زيادة الدور العربى فى مساعدة سوريا سياسيا لحل أزمتها بشكل نهائى وفقا لقرارات الأمم المتحدة، خاصة القرار 2254، وكذلك زيادة الدعم الاقتصادى العربى فى مواجهات التحديات المختلفة، وإعادة الإعمار وإعادة النازحين واللاجئين وتجاوز أثار الزلزال، إضافة إلى تحجيم التدخلات الخارجية والأدوار غير العربية فى سوريا والتى تزايدت فى السابق بسبب الغياب العربى.
ثالثا: عكست مشاركة الرئيس الأوكرانى زيلينسكى فى القمة وإلقاء خطاب أمامها، وهو ما يعد سابقة فى تاريخ القمم العربية، كذلك إلقاء الرئيس بوتين كلمة عبر برقية للقمة، الأهمية الإستراتيجية الكبيرة للمنطقة العربية، وتحول الدول العربية لفاعل بارز فى التفاعلات الإقليمية والدولية، والسعى للعب دور بارز فى الوساطة، وإنهاء الأزمة الأوكرانية. وهذا التأثير العربى يعود إلى السياسة الخارجية الرشيدة والنزيهة والمحايدة التى تتبناها مصر والسعودية والإمارات، وترتكز على الحياد الإيجابى وبناء شراكات اقتصادية وسياسية وإستراتيجية مع كل القوى الكبرى فى النظام الدولى فى إطار من التوازن والتنوع فى العلاقات وعدم الانخراط فى حالة الاستقطاب الدولى الحادة الحالية بين القوى الكبرى، وذلك بما يعظم المصالح العربية ويقلل التداعيات السلبية للأزمات العالمية.
رابعا: زيادة الدور العربى فى إدارة التفاعلات والأزمات العربية، وتقديم حلول عربية للأزمات والصراعات العربية المستمرة، خاصة فى سوريا واليمن وليبيا ومؤخرا السودان، وذلك فى إطار الرؤية المصرية الشاملة، والتى أكدها الرئيس السيسى فى كلمته أمام القمة، وتقوم على الحفاظ على الدولة الوطنية العربية، ومواجهة ورفض كل أشكال الميليشيات، وكذلك الحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال الدول العربية ورفض التدخلات الخارجية ورفض الحلول العسكرية وضرورة التسوية السياسية السلمية للأزمات، وهو ما انعكس فى استضافة السعودية لمحادثات طرفى الأزمة فى السودان والتوصل إلى اتفاق خاص بالتهدئة، ووقف إطلاق النار، وتعزيز البعد الإنسانى، وهو ما يمثل أرضية مهمة لإنجاز الحل السياسى وحل القضايا العالقة بين الجانبين.
خامسا: حملت القمة رسالة مهمة بشأن القضية الفلسطينية، وتأكيد وحدة الموقف العربى فى مواجهة الهجمة والعدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى ومقدساته، وتأكيد أن سياسة الأمر الواقع وتهويد القدس، وبناء المستوطنات، ومصادرة الأراضى، وحصار الشعب الفلسطينى لن تستطيع طمس الحقوق الفلسطينية، وأن السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار فى المنطقة وتوفير الأمن للجميع هو السلام العادل والدائم والشامل، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية فى إطار حل الدولتين.
سادسا: حملت القمة أيضا رسالة مهمة لدول الجوار، ترتكز على أن الدول العربية مع السلام والاستقرار، وإقامة علاقات حسن جوار تقوم على التعاون لمصلحة الجميع، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، لأنه فى معادلة التعاون والاستقرار الكل رابح رابح، بينما فى ظل الصراعات وعدم الاستقرار والتدخلات فى الشئون الداخلية للدول العربية الكل خاسر.
سابعا: رغم التحديات الكبيرة غير المسبوقة أمام العالم العربى فى استمرار الصراعات والأزمات ومشكلات التنمية والأمن الغذائى وهى تراكمات سنوات، فإن الروح العربية الجديدة التى تقودها القاطرة العربية، مصر والسعودية، والإمارات، تعكس حالة من الأمل والتفاؤل فى استعادة العافية العربية الكاملة، وفى تحقيق تطلعات الشعوب العربية فى إنجاز التنمية والازدهار، وهو ما يتطلب وضع خريطة طريق عربية لما بعد القمة، واستنادا لإعلان جدة، تقوم على التركيز على ثلاثة ملفات رئيسية، وهى تسوية الأزمات العربية، خاصة فى السودان وليبيا واليمن وسوريا، وتعزيز الأمن الغذائى العربى، وتحقيق التنمية العربية.