يشهد الملف السياسي الليبي حالة من السيولة والتعقيد والتسارع على مستوى التفاعلات الصراعية، إلى الحد الذي يجعل عملية التنبؤ بمستقبل هذا المسار شديدة الصعوبة، جنباً إلى جنب مع فرض هذه الحالة تحديات متنامية على مستوى حلحلة العديد من الأولويات والملفات الراهنة، وعلى رأسها ملف عقد الانتخابات، والتي كان مقرراً لها أن تجري في ديسمبر 2021، ولاحقاً في مايو ويونيو 2023، وفي هذا السياق يمكن القول إن افتقاد الدولة الليبية لعامل الاستقرار المستدام والشامل، وكذا استمرار أزمة ازدواجية السلطة، وحالة الصراع الطاغية على تفاعلات كافة الأطراف الفاعلة في المشهد، تمثل التحديات الرئيسية التي تعوق عملية إجراء الانتخابات الليبية، إلى الحد الذي جعل بعض التقديرات تذهب إلى استحالة إجراء الانتخابات في ظل الحالة الراهنة، لكن ومع كل هذه الصعوبات إلا أن مسألة وجود قاعدة تشريعية أقرها مجلس النواب الليبي خاصة بعملية الانتخابات، وكذا وجود رغبة إقليمية ودولية في إجراء هذا الاستحقاق المهم، ربما تكون اعتبارات يمكن البناء عليها في المراحل المقبلة من أجل إنجاز هذه الأولوية المهمة التي تمثل ضمانة رئيسية لتجاوز الحالة الانتقالية المستمرة التي تعيشها البلاد منذ سنوات.
تحديات قائمة تعيق إجراء الانتخابات الليبية
يمكن القول إن الطابع الصراعي الطاغي على التفاعلات الخاصة بالحالة الليبية أفرز مجموعة من السياقات والعوامل التي أعاقت بشكل كبير عملية إجراء الانتخابات الليبية، وفي هذا السياق يمكن تناول أبرز التحديات التي تواجه عملية إجراء الانتخابات الليبية، وذلك على النحو التالي:
1- أزمة ازدواجية السلطة في ليبيا: تفرض أزمة “ازدواجية السلطة” نفسها على ليبيا باعتبارها العائق الرئيسي أمام إنجاز مجموعة من الاستحقاقات وعلى رأسها ملف الانتخابات وحلحلة الأزمة الليبية، وفي هذا السياق كان المؤشر الرئيسي الذي يخيم على المشهد السياسي الليبي منذ أشهر، هو استمرار أزمة تنازع الشرعية بين حكومة «الوحدة الوطنية» منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والتي تتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها، وحكومة «الاستقرار» المدعومة من مجلس النواب، والتي يرأسها أسامة حماد، وتتمركز في شرق ليبيا.
وترتبط خطورة هذه الأزمة على مستوى ملف الانتخابات، بمجموعة من الاعتبارات الرئيسية، أولها أنه لا يمكن إجراء انتخابات ليبية في ظل وجود حكومتين تتنازعان الشرعية، وثانيها أن هناك تبايناً من قبل الحكومتين على مستوى النظر للقاعدة الدستورية والقانونية التي ستنبني الانتخابات عليها، وثالثها أن أزمة ازدواجية السلطة تفرض المزيد من التحديات اللوجستية وتُغيب أي ضمانات خاصة بمسألة إجراء الانتخابات، ورابعها أن أزمة ازدواجية السلطة قد أفرزت مجموعة من الفاعلين وجماعات المصالح المستفيدة من استمرار المرحلة الانتقالية وحالة الأزمة التي تعيشها البلاد، ما يجعل هذه الأطراف تمارس ضغوطاً كبيرة لعرقلة مسار الانتخابات.
2- عدم القدرة على تشكيل حكومة وحدة وطنية: تعريجاً على العامل السابق واتصالاً به، تمثل مسألة عدم القدرة على تشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا، لإدارة مرحلة الانتخابات، أحد التحديات الرئيسية التي تواجه هذا الملف، خصوصاً إذا ما وُضع في الاعتبار السعي الواضح من قبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة، إطالة أمد الصراع، وأنه لن يسلم الحكم إلا لحكومة تأتي في أعقاب الانتخابات، ما يعني عملياً رفضه أي أطروحات خاصة بتشكيل حكومة وحدة وطنية تقود البلاد إلى إجراء الانتخابات، وتأكيداً على هذا الاعتبار، أشار الناطق الرسمي باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري في أكثر من مناسبة إلى أن “تمسك الدبيبة بالسلطة، يعوق تنفيذ الاستحقاقات الليبية المؤجلة، ويهدد بعودة لغة السلاح”.
3- تحديات لوجستية تواجه لجنة الانتخابات: تواجه الهيئة العليا للانتخابات، العديد من التحديات اللوجستية التي تعوق تنفيذ العملية الانتخابية، وتتعدد أوجه هذه التحديات اللوجستية بين أزمات مرتبطة بتوفير السيولة المالية والتمويل اللازم لإجراء الاستحقاق الانتخابي، وأخرى مرتبطة بمطالبة الهيئة بفترة تتجاوز الستة أشهر لإنجاز عملها وتنفيذ الاستحقاق الانتخابي، وأزمات مرتبطة بطبيعة المحددات والضوابط التي ستحكم عملية قبول طلبات الترشح للانتخابات، ما يعني مد الفترة الخاصة بعملية الانتخابات، لمراعاة الطعون القضائية التي ستُقدم ضد بعض طلبات الترشح، هذا فضلاً عن الإشكالات والجدل المثار بخصوص ترشح بعض الشخصيات سواءً العسكرية أو مزدوجي الجنسية أو من المحسوبين على نظام “القذافي”، وذلك على الرغم من حسم مجلس النواب الليبي لهذه المسائل في أكثر من مناسبة، حيث أكد المجلس على أن قوانين الانتخابات الجديدة “لا تقصي أحداً ممن تتوفر فيه الشروط المعروفة للترشح، ولكل مواطن الحق في الترشح مدنياً أو عسكرياً دون إقصاء لأحد”، مشيراً إلى أن من لم يفز في الانتخابات يعود لسابق وظيفته.
4- استمرار بعض الإشكالات القانونية: على الرغم من التقدم الكبير المحرز على مستوى الخلفية القانونية والتشريعية لمسألة الانتخابات الليبية، وهو التقدم الناتج عن إعلان مجلس النواب الليبي في مطلع أكتوبر 2023، عن الموافقة بالإجماع على إصدار قانون انتخاب رئيس الدولة وقانون انتخاب مجلس الأمة الذي أنجزته لجنة (6+6)، والتأكيد أن “القانون أساس لتوحيد السلطة في البلاد، ويحقق رغبة الليبيين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية”، إلا أن هناك بعض الإشكالات القانونية والسياسية المرتبطة بهذا الاعتبار، وعلى رأسها وجود مطالبات بتغيير تركيبة هيئة الانتخابات، وكذا التحذيرات الخاصة بوجود قصور تشريعي في معالجة العديد من القضايا والمسائل التفصيلية الخاصة بالانتخابات، جنباً إلى جنب مع التخوفات من فتح الصيغ القانونية الواردة في القانون الباب أمام طعون عديدة بعد العملية الانتخابية.
5- التحديات الأمنية وانعكاساتها على إجراء الانتخابات: يحتاج إنجاز الانتخابات الليبية إلى ضمانات أمنية متعددة المستويات، وهنا يبرز بشكل رئيسي معضلة الميليشيات الليبية، وتتعاظم خطورة هذا العامل في ضوء مجموعة من الاعتبارات، أولها حالة الانفلات الأمني الكبيرة في العديد من المناطق الليبية على وقع النشاط الميليشياوي، وثانيها أن هناك مصلحة مباشرة للميليشيات المنتشرة في ليبيا من استمرار حالة التأزم الراهنة، وثالثها أنه لا يوجد رؤية واضحة حتى اللحظة بخصوص التعامل مع مسألة الميليشيات سواءً من خلال دمج هذه التشكيلات المسلحة أو حلها أو أي أطروحات أخرى.
6- التداعيات السلبية للتدخلات الخارجية: على الرغم من توافق كافة الأطراف الدولية المنخرطة في الملف الليبي تقريباً على ضرورة وأولوية إجراء الانتخابات، إلا أن الدول المنخرطة في الملف الليبي تتحرك تقريباً وفق أجندات سياسية متباينة، جنباً إلى جنب مع عدم وجود ضغوط حقيقية تفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تقود مسار الانتخابات وتشرف عليه، وبالتالي فالعامل الدولي هنا تحول من كونه طرفاً ضاغطاً لإنجاز الاستحقاق الانتخابي، إلى أحد مسببات الأزمة.
7- فشل جهود البعثات الأممية: أحد الإشكالات الرئيسية التي تواجه عملية إجراء الانتخابات، تتمثل في عدم فاعلية وفشل جهود البعثات الأممية إلى ليبيا، بل وتحول البعثة الأممية نفسها إلى أحد مصادر الاستقطاب الداخلي الليبي، وكذا تحولها إلى ورقة صراع نفوذ بين القوى الكبرى، وليس أدل على ذلك من إعلان الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بالأراضي الليبية السنغالي عبد الله باتيلي في 16 أبريل الماضي، بشكل مفاجئ عن استقالته من منصبه، ليلحق بذلك بثمانية مبعوثين أممين سابقين تم إرسالهم إلى ليبيا منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق معمر القذافي في 2011.
المسارات المحتملة لعملية الانتخابات
على الرغم من كل المؤشرات السابقة، والتي تحمل في طياتها تهديداً يتمثل في عدم القدرة على إجراء الانتخابات الليبية على المدى القريب والمتوسط، إلا أن هناك بعض المؤشرات الإيجابية التي يمكن البناء عليها في هذا الملف، وعلى رأسها وجود توافق دولي حول أولوية إنجاز هذا الملف، بما يمكن ترجمته إلى ضغوط فعلية لإجراء الانتخابات، جنباً إلى جنب مع وجود القاعدة الدستورية والقانونية التي يمكن البناء عليها في تنفيذ عملية الانتخابات، هذا بالإضافة لوجود تفاهمات متنامية بين مجلسي النواب والدولة في ليبيا، وفي ضوء كل المؤشرات السابقة يبدو أننا أمام أحد السيناريوهات التالية في إطار ملف الانتخابات الليبية:
1- استمرار الوضع على ما هو عليه: يفترض هذا السيناريو استمرار الأوضاع على ما هي عليه، على مستوى استمرار أزمة ازدواجية السلطة، وكذا إرجاء الانتخابات الليبية إلى أجل غير مسمى، وعدم القدرة على حسم هذا الاستحقاق، وتتمثل خطورة هذا السيناريو، في أنه يمهد لتداعيات سلبية على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، جنباً إلى جنب مع كونه يمثل تمهيداً لعودة الأراضي الليبية إلى دائرة الحرب مرة أخرى، إذ أن وقف إطلاق النار المنبني على هذا الوضع يظل هشاً.
2- حدوث انفراجة تمهد لإجراء الانتخابات: يفترض هذا السيناريو حدوث انفراجة على أكثر من مستوى تمهد لإجراء الانتخابات، خصوصاً مع وجود القاعدة الدستورية التي تم الإشارة إليها، جنباً إلى جنب مع وجود رغبة دولية وإقليمية في إنجاز هذا الاستحقاق، بالإضافة إلى المؤشرات المرتبطة بوجود حراك رامي إلى خلق حكومة وحدة وطنية جديدة في ليبيا.
3- إجراء الانتخابات في ظل الوضع الحالي: يفترض هذا السيناريو إجراء الانتخابات في ظل هذا الوضع الذي تتواجد فيه حكومتان في شرق وغرب ليبيا، وفي ظل الوضع الميليشياوي القائم حالياً، وتفترض الرؤى التي تطرح هذا السيناريو أن الانتخابات سوف تكون مفتاحاً لإنهاء حالة الانقسام الحالية، لكن هذا السيناريو يواجه العديد من الإشكالات اللوجستية والفنية والسياسية.
إجمالاً يمكن القول إن كافة التفاعلات السياسية التي تطغى على المشهد الليبي في السنوات والأشهر الأخيرة، أفرزت مجموعة من التحديات التي حالت دون إجراء الانتخابات، خصوصاً مع وجود أزمة ازدواجية السلطة، وانتشار الميليشيات المسلحة، وتحولها إلى فاعل رئيسي في المشهد الليبي، الأمر الذي يستدعي وجود مقاربات جديدة وغير تقليدية من قبل المجتمع الدولي والفاعلين في المشهد الليبي، تضمن جمع كافة الأطراف الليبية على الطاولة، والضغط عليها من أجل إنجاز مجموعة من الأولويات وعلى رأسها ملف الانتخابات.