منذ أن تراجعت أسعار النفط إلى ما دون (25 دولاراً) للبرميل، على خلفية انهيار الطلب تأثراً بموجة كورونا الكاسحة، بدأت حرفياً حرب على الأسعار متعددة الأطراف، كما يمكن بسهولة رصد بداية التلاعب بالمواقف والتصريحات المتبادلة من هنا وهناك، التى بدا أغلبها فى إطار إدارة كل طرف لتلك الحرب، ليس بحثاً عن مكاسب بالطبع، فالكل اليوم خاسر بامتياز. إنما فى أفضل أحوال المشهد العام للخطر وملابساته، بذل الجهد والمناورة من أجل تقليص حجم الخسائر، وتوفير بعض العوائد التى تمكن الدول المنتجة للسلعة الأهم من الإنفاق على تبعات الأزمة الخانقة.
تحالف (أوبك+) دون شك مهدد بالانهيار على نحو كبير، حيث يعد أول المصابين المباشرين بفيروس كورونا وضرباته، فالإخفاق الذى ضرب آخر اجتماع لمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) و10 منتجين من خارجها بقيادة روسيا، فيما أصبح يعرف بـ(أوبك+)، كشف عن تناقضات عميقة فى إدارة أزمة انخفاض الطلب العالمى على النفط، بمقدار يتراوح حول 20 مليون برميل يومياً، وهو رقم كبير يجعل السوق فى حالة تخمة معروض تضغط على الأسعار لتصل بها إلى تلك المستويات. بيانات وزارة الطاقة الروسية المنشورة الخميس الماضى، تحدد إنتاج النفط الروسى بـ«11.29 مليون برميل» يومياً، فى مستوى إنتاج ظل دون تغيير عن مستواه قبل شهر من تاريخ الإعلان، وفى تجاهل متعمد لآثار «جائحة كورونا» على الأسواق، أرفقت موسكو تلك البيانات بالحديث عن عزم روسيا عدم زيادة إنتاجها النفطى فى مواجهة تدنى أسعار السوق، وأنها «قد» تعود إلى محادثات النفط مع السعودية. جاء ذلك متزامناً مع الإخفاق فى تمديد الاتفاق بشأن الإنتاج، ما بين دول (أوبك) والمنتجين الآخرين بشأن الإنتاج والحصص السوقية. روسيا من خلال هذا التباعد تبدو أنها قررت السير بصورة منفردة وفق خطتها الذاتية، وسط أشواك عديدة تحيط بالسوق الأهم فى الاقتصاد العالمى، بل وقامت بتسكين الرئيس الأمريكى ببعض التطمينات التى ليس لها صدى واقعى على الأرض، عندما اشتكى دونالد ترامب من أن النفط الرخيص «الأقل من سعر المياه»، ألحق ضرراً فادحاً بتلك الصناعة.
فى ظل ذلك أعلن السبت الماضى على نحو مفاجئ، أن الاجتماع الذى كان مقرراً عقده الاثنين من هذا الأسبوع ما بين (أوبك) وروسيا، تأجل إلى التاسع من هذا الشهر، فى ظل تصاعد الخلاف بين موسكو والرياض بشأن من هو المسئول عن انخفاض أسعار النفط، مما يؤشر إلى احتمالية عدم انعقاده فى حال لم تظهر انفراجة ما، قبل الوصول إلى التاريخ المشار إليه. الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مارس ضغوطاً كبيرة على كلا الطرفين، من أجل أن تحقق (أوبك+) أى المنظمة وحلفاءها، درجة معقولة ومقبولة من الاستقرار العاجل فى أسواق النفط العالمية.
بعد أن وصلت أسعار النفط فى 30 مارس، إلى أدنى مستوى لها فى 18 عاماً مضت، سارعت (أوبك+) لمحاولة التوصل إلى اتفاق لخفض إنتاج النفط بما يعادل نحو 10% من المعروض العالمى، أو ما يقدر بعشرة ملايين برميل يومياً، وهو ما توقعت الدول الأعضاء بالمنظمة أن يكون هذا الجهد العالمى شاملاً الولايات المتحدة أيضاً. لكن واشنطن رغم ما مارسته من ضغوط، لم تلتزم بخريطة واضحة للإسهام فى هذا الجهد، برغم إدراكها أن روسيا فى ظل تلك الأوضاع الخانقة رفضت خطة تخفيض الإنتاج، وتمسكت بحصتها السوقية التى تراهن على أنها تمكنها فى المستقبل القريب من تحقيق مكاسب عبر إقصاء آخرين. فالرئيس الروسى بوتين عندما خرج الجمعة الماضى إلى الإعلام للحديث عن الاجتماع الذى جرى تأجيله، حمَّل السعودية بشكل مباشر مسئولية انهيار الأسعار على هذا النحو، فهو اعتبر أن تأثير فيروس كورونا إن كان يمثل السبب الأول وراء انهيار الأسعار، فالسبب الثانى من وجهة نظره كما عبَّر نصاً: «هو انسحاب شركائنا فى السعودية من صفقة (أوبك+) وزيادة إنتاجهم، فضلاً عن المعلومات حول استعداد شركائنا لتقديم تخفيض إضافى على سعر النفط». هذا دفع الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودى لقوله فى بيان السبت: إن «وزير الطاقة الروسى هو المبادر فى الخروج للإعلام، والتصريح بأن الدول فى حل من التزاماتها اعتباراً من الأول من أبريل، مما أدى إلى عزم الدول على زيادة إنتاجها لمقابلة انخفاض الأسعار، من أجل تعويض النقص فى الإيرادات».
أزمة حرب الأسعار تواجه اليوم معضلة حقيقية، لا تقف عند حد أنه يتعين على منظمة (أوبك) كى تحقق توازناً معقولاً للسوق، أن تخفض مستوى الإنتاج «الحالى» الآن، وليس العودة إلى مستوى «ما قبل» الأزمة. فهناك جانب إضافى آخر وهو ضرورة حضور الدور الأمريكى الغائب حتى الآن، فالأخيرة ذهبت إلى أبعد من الغياب بالبحث مع كندا فرض رسوم على واردات النفط الروسية والسعودية، فى حال لم تتوصل الدولتان لاتفاق سريع ينهى حرب أسعار النفط. هو ليس تهديداً مبطناً فى كل الأحوال، فكما بدا خلال الأسبوع الماضى أن واشنطن منشغلة عن الخلاف السعودى الروسى، واكتفت بالاتصالات الرئاسية مع الطرفين تحثهما على ضرورة احتواء الأزمة من دون خطوات عملية ملموسة، اليوم تصم آذانها عن صرخات بدأت تصل إليها من العديد من دول الإنتاج، التى تعرضت لانخفاض هائل فى عوائد صادراتها النفطية. الرئيس المكسيكى «لوبيز أوبرادور» أحد الصارخين الذى يتساءل مؤخراً، عن المسئولية تجاه الإنسانية ويفتش -بحسب قوله- عمن يطلق عليهم زعماء الدول، باعتبارهم صانعى أزمة تفاقم حرب الإنتاج ومن ثم تهاوى الأسعار. أحداث السوق التى ارتبط الاقتصاد العالمى بها على نحو كبير، تبدو اليوم على أعتاب متغيرات واسعة وممتدة، مثلها مثل غيرها ممن ضربهم الفيروس الذى بدا معضلته الأكبر، أن سقفه الزمنى والمكانى المفتوح، يثير قدراً غير محدود من الارتباك يشهده العالم الحديث.
نقلا عن صحيفة “الوطن” نشر بتاريخ ٧ أبريل ٢٠٢٠.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية