مُنذ تفشي فيروس كورونا المستجد في العالم، بدأت الحكومات في وضع إجراءات وخطط وقائية لوقف انتشار الفيروس. من أهم هذه الإجراءات حَث الناس على ضرورة الالتزام بسياسات التباعد الاجتماعي؛ أي منع الاختلاط مع الآخرين والالتزام بالمنازل، من أجل مكافحة انتشار الوباء. وفي حين استطاعت العديد من بلدان العالم أن تطبق هذه السياسات بشكل فعال، عانت الدول العربية، التي اعتاد مواطنوها على التقارب الاجتماعي بشكل كبير، في تطبيق التباعد الاجتماعي بشكل ناجع. وربما يَرجع السبب في ذلك إلى نقص التوعية اللازمة للمواطنين عن مفهوم التباعد الاجتماعي، وكيفية تطبيقه بشكل فعال؛ باعتباره من الوسائل المهمة للحماية من الإصابة بالفيروس، في ظل تكهنات العلماء حول احتمال الاضطرار للتعايش لفترة طويلة مع الفيروس، قد تصل إلى أكثر من عامين.
مفهوم التباعد الاجتماعي
يُقصد بالتباعد الاجتماعي الحفاظ على مسافة أو مساحة بين الأشخاص للمساعدة في منع انتشار الفيروس فيما بينهم. ويؤكد الخبراء أنه يمكن إبطاء انتشار فيروس كورونا المستجد وتقليل خطر الإصابة به من خلال ابتعاد الأفراد عن بعضهم مسافة لا تقل عن 6 أقدام (1.80 متر). فكما هو موضح بالصورة التالية، عندما يسعل الشخص الذي يحمل الفيروس أو يعطس، من الممكن أن ينتقل رذاذ القطيرات الصغيرة الناتجة منه لمسافة تصل إلى 6 أقدام، لتستقر بعدها هذه القطيرات على أفواه الأشخاص القريبين أو أنوفهم وإصابتهم بالعدوى؛ لذا يعد الحفاظ على التباعد الجسدي أمرًا مهمًّا، حتى ولو لم يكن الفرد مريضًا، مع البقاء في المنزل قدر الإمكان.
وتَهدف سياسات التباعد الاجتماعي بشكل رئيسي إلى إبطاء انتشار فيروس كورونا المستجد بين الأفراد، وهو ما يطلق عليه العلماء مُصطلح “تسطيح منحنى الفيروس”. ويتم استخدام هذا المنحنى في توضيح العلاقة بين عدد المصابين والفترة الزمنية منذ بدء انتشار الفيروس، مع تحديد الحد الأقصى لأعداد المصابين بالفيروس الذين يمكن أن تقدم لهم المستشفيات الرعاية الطبية اللازمة. لذا، إذا حدث تباطؤ في انتشار الفيروس أو تم تسطيح منحنى الانتشار، فستكون المستشفيات أكثر قدرة على استيعاب المرضى وتقديم العناية الطبية لهم. على عكس ما سيحدث إذا كان معدل الانتشار سريعًا؛ حيث ستزداد أعداد المصابين بمعدل سريع يفوق الإمكانيات الطبية والبشرية المتوفرة لدى المستشفيات، وهو ما يتسبب في خروج إدارة أزمة الفيروس عن السيطرة كما هو موضح بالرسم البياني التالي.
هل سيكون هناك منحنى واحد من انتشار الفيروس؟
أجرى الباحثون حول العالم العديد من الدراسات لتوقع موعد انتهاء أزمة فيروس كورونا المستجد، كما قاموا بإنشاء العديد من نماذج المحاكاة لوضع تصور مستقبلي لمسار نشاط الفيروس أثناء تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي، وكذلك في حال رفعها. وأوضحت نتائج هذه النماذج أنه من المحتمل أن يتبع انتشار الفيروس شكلًا متكررًا من المنحنيات -أو ما يعرف بموجات الانتشار- التي تصعد وتنخفض وفقًا لوضع سياسات التباعد الاجتماعي حتى عام 2022، إذا لم يتم إيجاد لقاح ضد فيروس كورونا المستجد.
وأبرزت نتائج إحدى الدراسات التي أجراها مركز أبحاث وسياسات الأمراض المعدية بجامعة مينيسوتا الأمريكية، أن هناك ثلاثة سيناريوهات محتمله لانتشار الفيروس كما هو موضح بالرسم البياني التالي.
1- السيناريو الأول يتوقع حدوث موجة كبيرة من انتشار الفيروس، وهي الموجة التي نعيشها الآن، وسيتبع ذلك موجات صغيرة من الانتشار، يمكن تشبيهُها “بقمم الجبال والوديان”، لكن على مدار العام أو العامين المُقبلين ستتقلص هذه الموجات تدريجيًّا.
2- السيناريو الثاني يفترض أن الموجة الحالية ستتبعها موجة أكبر مع بداية فصل الخريف أو ما يمكن تسميته بـ”ذروة الخريف”، مع موجات أصغر من الانتشار بعد ذلك، على غرار ما حدث خلال جائحة الإنفلونزا خلال عامي 1918-1919.
3- السيناريو الثالث يقترح أن تكون ذروة انتشار الفيروس في فصل الربيع، وسيتبع ذلك موجات انتشار متكررة ولكنها محدودة من الفيروس، أي “الانتشار البطيء للفيروس”.
كما أكد العلماء في نهاية الدراسة أن استمرار الدول في تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي مع غياب اللقاح، سيؤدي إلى استمرار نشاط الفيروس لمدة عام ونصف على أقل تقدير، مع احتمال ظهور بؤر جديدة من تفشي الفيروس في مختلف دول العالم.
أما الدراسة الثانية، التي قام بها علماء بجامعة هارفارد، فتم فيها دراسة تأثير تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي مع تأثيرات أخرى كتغيير المواسم على مدار العام، ومضاعفة قدرات العناية الحرجة في المستشفيات. وتشابهت استنتاجات هذه الدراسة مع نتائج الدراسة السابقة، حيث صورت أيضًا مستقبلًا متموجًا لانتشار الفيروس على هيئة منحنيات متكررة على غرار نموذج القمم والوديان، ولكن في ثلاثة مسارات مختلفة.
أوضح المسار الأول في تلك الدراسة تأثير الاستراتيجية التي تتبعها أغلب الدول في التطبيق المتقطع لسياسات التباعد الاجتماعي فقط؛ بهدف حماية أنظمتها الصحية من الانهيار. وعكست النتائج معدل الإصابات المتوقع بفيروس كورونا المستجد خلال الفترة من يناير 2020 وحتى يوليو 2022، مع تحديد الحد الأقصى من أعداد المصابين بالفيروس لكل 10 آلاف نسمة من المواطنين والذي سيتم عند الوصول إليه تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي، وكذلك الحد الأدنى من المصابين لكل 10 آلاف نسمة والذي سيتم عنده رفع سياسات التباعد الاجتماعي. وكما هو موضح بالرسم البياني التالي، سيظل مسار الفيروس مستمرًّا ولكن في شكل موجات مع تطبيق ورفع سياسات التباعد الاجتماعي وذلك حتى يوليو 2022. فيما يمثل الرسم البياني الأخضر الزيادة المقابلة في مناعة المواطنين في ظل تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي وحدها، والذي يوضح أن مستوى المناعة الذي يجب الوصول إليه للسيطرة على انتشار الفيروس دون اتخاذ تدابير أخرى “تحقيق مناعة المجتمع” هو تمنيع 55% من إجمالي المواطنين. ويقصد بمناعة المجتمع أو “مناعة القطيع” أحد أشكال الحماية غير المُباشرة من مرضٍ معدٍ، وتتحقق عندما تكتسب نسبة كبيرة من المجتمع مناعة لعدوى معينة، إما عن طريق الإصابة بالعدوى مسبقًا أو من خلال التلقيح، وهو ما يوفر حماية للأفراد الذين ليست لديهم مناعة للمرض.
فيما يعرض المسار الثاني تأثير التطبيق المتقطع لسياسات التباعد الاجتماعي، مع التغيير الذي سيحدث في المواسم على مدار العام، على انتشار الفيروس. ومن المتوقع أن تسمح التغيرات الموسمية بترك فترات أكبر بين تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي؛ أي رفع الحد الأقصى لأعداد المصابين بالفيروس لكل 10 آلاف نسمة من المواطنين والذي يتم عنده تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي، حيث إنه من المحتمل أن انتشار الفيروس سيكون أكثر بطئًا في أشهر الصيف. ولكن هذا العام، من المرجح أن تكون التأثيرات الموسمية ضئيلة، حيث إن نسبة كبيرة من السكان ستظل عرضة للفيروس حتى في موسم الصيف؛ لذا لا يمكن الاعتماد على تأثير التغييرات الموسمية وحده لدرء حدوث تفشٍّ آخر من الفيروس خلال أشهر الصيف القادمة.
أما المسار الأخير فيوضح التأثير المهم لمضاعفة السعة السريرية لأقسام العناية الحرجة بالمستشفيات مع تغيير المواسم في ظل التطبيق المتقطع لسياسات التباعد الاجتماعي؛ فمن المتوقع أن تُسهم مضاعفة قدرات العناية الحرجة في السماح بفترات أطول بكثير بين تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي عما كان سيحدث بفعل تغير المواسم، وهو ما سيسمح بتمنيع نسبة أكبر من المواطنين كما هو موضح بالرسوم البيانية التالية.
ما يمكن استنتاجه بشكل عام من نتائج تلك الدراسات، أن سياسات التباعد الاجتماعي تظل شديدة الأهمية في الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد وحماية النظم الصحية من الانهيار؛ لذا يجب توعية المواطنين بشكل مكثف حول كيفية تطبيقها في المجتمع بشكل ناجع. لكن لا يمكن للحكومات أن تعتمد فقط على جهود التباعد الاجتماعي وحدها للسيطرة على الوباء على المدى الطويل، والذي يُتوقع أن يمتد لعامين على الأقل، حيث إنه بمجرد رفع تدابير التباعد الاجتماعي من المُحتمل أن ينتشر الفيروس مرة أخرى بنفس السهولة التي انتشر بها في البداية، كل ذلك بالطبع في ظل غياب اللقاح.