أعتاد العالم أن يتابع الانتخابات الرئاسية الأمريكية باعتبار أن نتائجها ممثلة في فوز أحد المرشحين حاملا معه مشروعا لقيادة العالم سوف تؤثر على الكثير من المعادلات الدولية بشكل أو بأخر. والانتخابات الرئاسية الراهنة تتطلب وعيا خاصا بما قد ينتج عنها من تحديات، وهي لا تخلو من عناصر إثارة ربما أكثر صخبا مما كانت عليه الانتخابات السابقة قبل أربع سنوات والتي فاز فيها الرئيس ترامب. وبالرغم من أن منافس الرئيس ترامب هو الديمقراطي جو بايدن، إلا أن حملة ترامب ركزت أكثر على هيلاري كلينتون من خلال رفع السرية عن العديد من المراسلات الخاصة بها أثناء عملها كوزيرة خارجية في إدارة الرئيس أوباما 2009 إلى 2013، وهي الفترة التي شهدت تغيرات حادة في المنطقة العربية ما زلنا نعيش أثارها وتداعياتها المثيرة والعنيفة.
ما كشفت عنه رسائل هيلاري التي رفعت عنها السرية من خطة أمريكية لإحداث تغييرات صادمة في عدد من الدول العربية بهدف تمكين تنظيم الاخوان في السلطة مدعوما بتأييد أمريكي، على نحو يتيح تحكما أمريكيا كاملا في مسارات النظامين العربي والإقليمي ومعادلات القوة والنفوذ فيهما، ليس بالأمر الجديد على مسامع أهل المنطقة، فجزء من هذه القصص والمرويات والأخبار الموجودة في رسائل هيلاري الرسمية نشر من قبل بعد حكم إحدى المحاكم الامريكية في العام 2015، أو سربت أجزاء من بعض الرسائل، أو وصلت بطريقة ما الى منصة ويكليكس المشهورة بنشر مثل تلك الوثائق بغض النظر عن رفع السرية عنها من عدمه. بيد أن السماح الرسمي بنشر بعض تلك الرسائل كوثائق معتمدة يصدق على ما هو معروف ومتداول وينفى عنه صفة الاحتمالية أو التشكيك في مضمونه وتفاصيله. والنتيجة المباشرة لهذا الأمر هو أن بلدانا عربية عدة، من بينها مصر، كانت محورا لمؤامرة وتخطيط أمريكي وتحرك فعلى لغرض تغيير الهوية وإخضاعها لتنظيم دولي معروف عنه تطلعه إلى السلطة بأي ثمن وأي وسيلة، ومستعد لأن يكون تابعا ذليلا للقوة الكبرى وخاضعا لتوجهاتها رغم شعاراته التي تنطق بعكس ذلك. الأكثر من ذلك أن تلك السياسة الأمريكية لإدارة أوباما تعد مسئولة عن الانتشار الهائل لتنظيمات التطرف والارهاب في المنطقة وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي، ومسئولة أيضا عن توفير منصات إعلامية ذات قدرات مالية كبيرة تدعم وتروج لتلك التنظيمات وأفكارها ومشروعاتها التخريبية في الكثير من البلدان العربية والإسلامية. في السياق ذاته أكدت الوثائق أن هناك نظما عميلة ولا تملك من إرادتها شيئا وهي إن كانت عربية اسما فإنها لا تزيد عن كونها معول هدم وتخريب مضاد لكل ما هو عربي وإسلامي.
وهنا يمكن إبداء عدة ملاحظات، الأولى أن رفع السرية عن بعض الرسائل بضغط من الرئيس ترامب على كل من وزير العدل ووزير الخارجية، غير بعيد عن خطة حملة ترامب بتوجيه ضربات قاتلة للمنافس بايدن من خلال تعرية التراث السياسي لهيلاري، باعتبار أن بايدن كان نائبا للرئيس أوباما وهو شريك فى كل المساوئ التي زرعتها تلك الإدارة عربيا وعالميا، وبالتالي ليس من المستبعد أن يعيد إنتاج بعض أو كل التراث السياسي لهيلاري، والذى يدور حول نشر الفوضى ودعم جماعات راديكالية لا تؤمن أساسا بالقيم الديمقراطية بما يتناقض مع إيديولوجية الحزب الديمقراطي الأمريكي، والعمل على تمكين تلك الجماعات الراديكالية من الحكم في أكثر من بلد عربي، ما أدى الى نشوء تنظيم داعش وغرق العديد من البلدان العربية في أزمات وحروب وانقسامات وفوضى بات من المستحيل في بعض الحالات السيطرة عليها، ومن ثم تشكل بؤرا للصراعات واستنزاف الموارد وهلاك البشر.
الملاحظة الثانية أن هناك علاقة خاصة بين قطر كممول لخطط ومؤامرات التغيير الصاخب وتابع ذليل لإدارة أوباما، وبين مؤسسة كلينتون، والتي أنشاها الرئيس الأسبق بيل كلينتون بعد خروجه من الرئاسة بهدف دعم قيم العولمة والانفتاح بين الشعوب وفقا لما هو وارد في التعريف الخاص بها، ولكنها عمليا أصبحت الوسيلة التي تحصل منها هيلاري كلينتون وزوجها على أموال قطر بزعم توظيف تلك الأموال في تمكين الإسلاميين من الحكم خاصة الإخوان الذين اشتكوا لهيلاري ضعف إمكاناتهم الإعلامية، فكان أن طلبت من قطر تمويلا قدره مائة مليون دولار لمؤسسة كلينتون يوظف للترويج إعلاميا للإخوان وأشباهها. والأمر هنا يتعلق بفساد مشهود، وخلط بين الوظيفة الرسمية وبين دعم مؤسسة الزوج ماليا من طرف خارجي دون التقيد بالقوانين، واستغلال تلك الوظيفة الرسمية كوزيرة للخارجية والحصول على أموال خاصة. وبالقطع فهذه الجريمة تتشارك فيها قطر كفاعل رئيسي جنبا إلى جنب الوزيرة السابقة.
الملاحظة الثالثة أن ما تم رفع السرية عنه لا يزيد عن 360 وثيقة من بين 30 ألف وثيقة، وربما ترفع السرية عن مجموعة أخرى يتم التدقيق فيها والتأكد من خلوها من معلومات تمس الأمن القومي الأمريكي أو تكشف عن أسرار غير مرغوب في كشفها في الظروف الراهنة، وقد توظف لاحقا إن اقتضى الأمر. ومن ثم فعدد الوثائق المسموح بها ضئيل للغاية، ومع ذلك فقد أفصح عن حجم تورط إدارة أوباما في عملية سياسية واستخباراتية كبيرة جدا، ولكنها فشلت في النهاية وأصبحت تمثل عنوانا لتواضع وخسة الحسابات الاستراتيجية لتلك الإدارة.
الملاحظة الرابعة أن فشل استراتيجية تمكين التنظيمات الإسلامية الراديكالية والارهابية من حكم أهم بلدان النظام العربي، كمقدمة للهيمنة على باقي دول النظام، راجع أساسا لفشل حكم الإخوان في مصر والموقف الشعبي الرافض الخضوع لتنظيم سرى إرهابي لا يملك من أسس الحكم الرشيد شيئا، والذي تأيد بوقوف ودعم المؤسسات الرئيسية في الدولة المصرية لهذا الموقف الشعبي، وما ترتب عليه من إسقاط مشروع أوباما / هيلاري للفوضى الشاملة في مصر أولا وفى الإقليم ثانيا.
الملاحظة الخامسة أن إدراك دول عربية خاصة السعودية والإمارات لخطورة سقوط مصر في براثن الإخوان والفوضى الأمريكية، ومساندتها لثورة الشعب المصري في 2013، لعب دورا مهما في وقف أي ضغوط جديدة حاول الرئيس اوباما والوزيرة هيلاري أن يمارسها ضد إرادة الشعب المصري.
الملاحظات الخمسة مترابطة وتوضح إلى أي مدى أهمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وما يمكن أن تحمله إدارة بايدن في حال فوزه من إشكاليات سياسية وتحديات أمنية للعديد من الدول العربية، الأمر الذي يتطلب الاستعداد لكل الاحتمالات مصريا وعربيا.