عندما نعالج موضوعًا شديد التعقيد، مثل موضوع المصالحة الفلسطينية، لا بد أن يتبادر إلى الأذهان ثلاثة محددات رئيسية. المحدد الأول أن الانقسام الفلسطيني يُعد إحدى المحطات السلبية المؤثرة في تاريخ القضية الفلسطينية ككل، بل يمكنني القول إنه يُعد نكبة لا تقل كثيرًا في تأثيراتها عن نكبة 48. المحدد الثاني أننا نتحدث عن انقسام فلسطيني بدأ منذ عام 2007، أي تعدى أحد عشر عامًا، وهي فترة كافية لتعميق هذا الانقسام، وإثارة العديد من العقبات أمام إمكانية إنهاء هذه المعضلة بسهولة.
المحدد الثالث إن الدولة الوحيدة في العالم التي بذلت جهدًا مخلصًا وغير مسبوق لإنهاء الانقسام هي مصر التي لا تزال تسعى جاهدة حتى الآن لحل هذه المشكلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدور المصري في المصالحة تم بتفويض من جامعة الدول العربية. ولا يمكن لنا أن نتعمق في قضايا المصالحة دون أن نوضح الجهد المصري الذي بدأ بعد أشهر قليلة من سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزة في يوليو 2007. وفي هذا المجال من الضروري أن أستعرض المحطات التالية:
– المحطة الأولى: قامت مصر في سبتمبر 2008 بجمع كافة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية في القاهرة، ونجحت في بلورة ما يمكن أن يطلق عليه اتفاق عام لمبادئ المصالحة. وبالرغم من التوافق على توقيت الإعلان الرسمي لهذا الاتفاق، إلا أن حدوث بعض المشكلات الطارئة من جانب بعض الفصائل أدى إلى عدم خروج هذا الجهد الكبير للنور.
– المحطة الثانية: عقدت مصر اجتماعًا موسّعًا بالقاهرة لكافة التنظيمات الفلسطينية في مارس 2009، واستمرت الاجتماعات المكثفة لمدة عشرة أيام متتالية، انتهت بالتوافق على صياغة وثيقة مصالحة شاملة متكاملة ستظل تمثل المرجعية الرئيسية للمصالحة، حيث عالجت كافة القضايا الخلافية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حركة “فتح” وافقت ووقّعت وحدها على الوثيقة في نهاية العام ذاته، بينما لم توقع باقي الفصائل عليها إلا بعد حوالي عامين وذلك خلال احتفال كبير تم بالقاهرة في الرابع من مايو 2011 بحضور الرئيس “أبو مازن” وكافة القيادات الفلسطينية وبعض المسئولين العرب والأجانب وممثلي جميع التنظيمات الفلسطينية بما في ذلك فصائل المقاومة. ثم استُكملت هذه الجهود بما عُرف بعد ذلك بإعلان الدوحة في 2012، ثم اتفاق الشاطئ الموقّع في قطاع غزة في أبريل 2104 والخاص بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة (مهنية وليست حكومة فصائلية) ترأسها الدكتور “رامي الحمد الله” منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
– المحطة الثالثة: وهي المحطة التي لا تزال جهودها قائمة حتى الآن والتي بدأت بتوجيه السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” خطابًا شاملًا للشعب الفلسطيني في الثالث من أكتوبر 2017 يحثه على إنهاء الانقسام. ثم قامت حركتا “فتح” و”حماس” في الثاني عشر من الشهر ذاته بتوقيع اتفاق مشترك بالقاهرة يقضي بإتاحة المجال أمام الحكومة الفلسطينية للعودة إلى غزة، وتمكينها من أداء كافة مهامها، على أن تكون مصر حاضرة في كافة الجهود التالية لهذا الاتفاق. ولا تزال الجهود المصرية متواصلة لوضع هذا الاتفاق موضع التنفيذ في ضوء صعوبات متعددة حالت دون تنفيذه.
وحتى تكون الأمور أكثر وضوحًا، ويكون هناك تفهم أكثر لطبيعة المشكلات التي تعوق تنفيذ المصالحة، من الضروري الإشارة إلى نوعين من المشكلات، إحداهما مشكلات رئيسية تم وضع حلول لها في وثيقة المصالحة الشاملة الموقعة في القاهرة في 2011، والثانية مشكلات ظهرت معظمها كنتائج طبيعية للانقسام وطول فترته، وهناك مقترحات متعددة لحلها، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
أولًا- المشكلات الرئيسية:
فيما يتعلق بالانتخابات فقد تَوَافق الجميع على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في توقيت متزامن، وتم الاتفاق على أكثر من تاريخ محدد في هذا الشأن (لم يتم الالتزام به).
وفيما يتعلق بالأمن، فقد تم التوافق على أن تكون الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة أجهزة مهنية وحرفية، ويتم تشكيلها بعيدًا عن طبيعة الانتماء للتنظيمات والفصائل، على أن تقوم مصر أساسًا بعملية تأهيلٍ لعناصر هذه الأجهزة.
وفيما يتعلق بمنظمة التحرير، فقد تم التوافق على تشكيل ما يسمى بالإطار القيادي المؤقت دون المساس بصلاحيات اللجنة التنفيذية للمنظمة، تمهيدًا لبحث كافة الأمور لإعادة تفعيل وتطوير المنظمة وضم التنظيمات الأخرى إليها على أسس متوافق عليها لا تغير من جوهر مسئوليات والتزامات واتفاقات وقرارات ومقررات المنظمة.
وفيما يتعلق بالمصالحة المجتمعية، فقد تم التوافق على كافة الإجراءات التي تحل بصورة جذرية كل الآثار السلبية التي نجمت عن سيطرة “حماس” على غزة، خاصة مسألة تعويض المتضررين ماديًّا واجتماعيًّا.
وأخيرًا وفيما يتعلق بالحكومة، فقد تم الاتفاق على تشكيل حكومة فلسطينية أو هيئة تتولى مسئولية الإعداد للانتخابات والإشراف على إعادة إعمار غزة ومتابعة عملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية.
ثانيًا- المشكلات الأخرى:
– تشكيل حكومة فلسطينية جديدة خلال أقرب فرصة بدلًا من حكومة الدكتور “رامي الحمد الله”، على أن يتم التوافق على طبيعتها، وهو الأمر الذي تطالب به “حماس” وتؤيد تشكيل حكومة فصائلية، بينما تعارض حركة “فتح” هذا الأمر، ولا تجدد له مبررًا في الوقت الحالي.
– بعض المشاكل الأخرى، أهمها المشكلة الخاصة بوضعية الموظفين الذين قامت “حماس” بتعيينهم في مختلف المؤسسات في غزة، ورواتبهم، ودخول قطر كطرف لحل هذه المشكلة والتوافق مؤخرًا على إدخال حوالي تسعين مليون دولار إلى القطاع على مراحل (بموافقة إسرائيلية) لاستخدامها في دفع رواتب الموظفين وبعض المشروعات التنموية التي تمولها قطر منذ فترة، بالإضافة إلى بعض المشكلات الحياتية الناجمة عن الإجراءات التي اتخذها الرئيس “أبو مازن” تجاه غزة والتي تراها “حماس” عقوبات على القطاع وتطالب برفعها أولًا.
– موقف ما يسمى بسلاح المقاومة الذي تمتلكه بصفة خاصة حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ومدى إمكانية اندماجه في سلاح السلطة حتى يكون هناك تنفيذ حقيقي لما تطالب به السلطة الفلسطينية (سلاح واحد وسلطة واحدة وقرار واحد)، وهو الأمر الذي ترفضه “حماس” تمامًا.
وبالرغم من هذه المشاكل التي تبدو بالتأكيد متشابكة ومعقدة، إلا أن إمكانية التوصل إلى حلول لها ليست بعيدة أو مستحيلة فقد أصبحت لدينا مئات الأوراق التي تتضمن حلولًا لكافة هذه المشكلات، وتحديدًا حلولًا وسط قبلتها حركتا “فتح” و”حماس” في فترات سابقة. وللأسف لم يتم وضعها موضع التنفيذ لأسباب متعددة، بعضها داخلي وبعضها خارجي. ولعل أحد أهم أسباب عدم نجاح المصالحة حتى الآن يتمثل في عدم توافر الإرادة القوية الحقيقية لدى الأطراف لإنهاء هذا الانقسام اللعين الذي كاد يقترب من تعقيدات الاحتلال الإسرائيلي.
وقبل الخوض في إيضاح كيفية إنهاء هذا الانقسام، من المفيد أن أسوق هنا رؤية فلسطينية يمكن الاستفادة من مضمونها تم طرحها في مايو 2006 عرفت باسم “وثيقة الأسرى”، بلورتها قيادات من “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” والجبهتين الشعبية والديمقراطية الموجودة في السجون الإسرائيلية، تضمنت ثماني عشرة فقرة، أهمها في رأيي ثلاث فقرات. الأولى أن إدارة المفاوضات هي من صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة على أساس التمسك بالأهداف الوطنية. الثانية ضرورة تطوير المؤسسة الأمنية على أساس عصري وإنهاء المظاهر المسلحة ومصادرة فوضى السلاح. أما الفقرة الثالثة فهي حق المقاومة بمختلف الوسائل وتركيزها في أراضي 67 مع الاستمرار في المقاومة الشعبية الجماهيرية.
ونأتي إلى النقطة الأخيرة المهمة المتمثلة في مدى إمكانية تحقيق المصالحة الفلسطينية وتنفيذها على أرض الواقع. وفي رأيي أن هناك بالتأكيد فرصة متاحة لإنهاء هذا الانقسام من خلال الشروط الثلاثة التالية، والتي يمكن أن تشكل في مجملها إطارًا عامًّا للحل، وهي:
– الشرط الأول: ضرورة أن تكون هناك ثقة كاملة من جانب الفصائل الفلسطينية في الشريك المصري، وفي الجهود المضنية التي يقوم وسيقوم بها من أجل تحقيق المصالحة، ليس ذلك فقط، بل يجب أن تقبل “حماس” و”فتح” بالحلول الوسط التي تطرحها مصر ما دامت تمثل حلولًا واقعية ومنطقية تقفز على المصلحة الحزبية الضيقة، وتتعداها إلى مصلحة الشعب الفلسطيني، على أن يتم بلورة جدول زمني واضح المعالم والمهام من أجل البدء في تنفيذ حقيقي وأمين برعاية مصرية كاملة لما تم التوافق عليه في وثيقة المصالحة الموقّعة من كافة الفصائل في مايو 2011، واتفاق حركتي “فتح” و”حماس” الموقع في أكتوبر 2017.
– الشرط الثاني: حتمية قبول حركة “حماس” بالتخلي عن السيطرة الفعلية عن حكم قطاع غزة، مع قيامها بتسليم حقيقي لكافة المهام والمسئوليات للحكومة الفلسطينية، وتظل “حماس” قائمة كفصيل فلسطيني وطني له كل الحقوق وعليه كافة الالتزامات، مع ضرورة أن تكون لدى “حماس” قناعة بأنه بدون أن تكون هناك سلطة واحدة، هي سلطة “أبو مازن” الرئيس المنتخب، فلن تكون هناك مصالحة. وفي الوقت ذاته، لن تكون هناك مشكلة في سلاح المقاومة ما دام تم الاتفاق على أن هناك قرارًا واحدًا موحدًا، فلا يمكن أن يتحكم فصيل واحد أيًّا كان في القرار الفلسطيني السياسي أو العسكري.
– الشرط الثالث: ضرورة أن تتحمل السلطة الفلسطينية المسئولية الكاملة عن قطاع غزة بمواطنيه ومؤسساته المختلفة وكل جوانب الحياة والمعيشة هناك، وألا تكون هناك أية عقوبات أو قيود على القطاع ما دامت غزة قد عادت إلى الشرعية، وأصبحت الحكومة هي المسيطرة والمسيّرة لكل مناحي الحياة في القطاع. وتتبقى الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي لا بد من التوافق على تاريخ محدد لها وليس بعيدًا هي الفيصل في تحديد طبيعة الحكم في المرحلة القادمة.