اتهم الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الصين بأنها تسببت في تأخر الاستجابة العالمية لمواجهة وباء كورونا، بسبب إخفائها معلومات مهمة عن بداية ظهور الفيروس وأعداد المصابين به، والمعلومات الأولية المتوافرة عن طبيعته. ورغم أن هذه الاتهامات لا تساندها أدلة قوية، إلا أنه حتى لو ثبت صحتها، فإن احتمالات فتح جديد لملف قديم يتعلق بتكرار إخفاقات أجهزة الاستخبارات الأمريكية يبدو احتمالًا واردًا بقوة عقب تراجع تهديد الوباء، خاصة وأن الولايات المتحدة تمتلك سبعة عشر جهازًا استخباراتيًّا يعمل كل منها في مجال محدد، ومنها جهاز مهمته جمع المعلومات عن الأوضاع الصحية في العالم، وهو الجهاز الوحيد في العالم من هذا النوع حتى الْيَوْمَ. إذ كيف لم يتمكن هذا الجهاز من معرفة ما كان يحدث في بعض المقاطعات الصينية في ديسمبر من العام الماضي بسبب ظهور الوباء الغامض حتى لو كانت الصين تعمدت إخفاء معلومات ضرورية عنه؟
هل افتقر “ترامب” لمعلومات استخبارية عن الوباء؟
مع اشتداد أزمة كورونا، واضطرار إدارة “ترامب” لاتخاذ قرارات قاسية بتقييد حرية الانتقال والتجمع في العديد من الولايات، بدأت بعض الصحف الأمريكية، مثل “نيويورك تايمز”، في توجيه الاتهامات للرئيس “ترامب” شخصيًّا بأنه تجاهل خلال شهر يناير الماضي تحذيرات قوية بخطورة فيروس (كوفيد-19). واستندت الصحيفة إلى مذكرتين كان المستشار التجاري لترامب “بيتر نافارو” قد قدمهما إليه. الأولى، كانت في يناير الماضي، والثانية في الثالث والعشرين من فبراير. لكن “ترامب” أنكر أنه اطلع على المذكرتين، وقال في مؤتمره الصحفي اليومي في الثامن من أبريل الجاري، إنه لم يرَ مذكرات مستشاره التجاري!
في الاتجاه نفسه الهادف لإدانة “ترامب” بسبب سوء تقديره لخطورة الفيروس، قالت وكالة ABC الإخبارية في تقرير منشور على موقعها على الإنترنت في التاسع من أبريل الجاري، إن “المركز الوطني للاستخبارات الطبية” National Center for Medical Intelligence، والمركز الوطني العسكري الأمريكي للاستخبارات الطبية NCMI، قد حذّرا في مذكرات موجهة للبنتاجون والبيت الأبيض من خطورة الفيروس في شهر نوفمبر الماضي، خاصة على القوات الأمريكية التي تخدم في القواعد العسكرية العديدة في القارة الآسيوية.
وإذا صدقت مثل هذه التقارير فإن الضرر الأكبر سيقع على الرئيس “ترامب”، حيث سيتم اتهامه بأنه كانت لديه معلومات كافية عن خطورة الفيروس وإمكانية تحوله إلى وباء يتسبب في كوارث صحية واقتصادية ليس للولايات المتحدة وحدها بل للعالم أجمع، وأنه بالرغم من ذلك لم يأبه بهذه التحذيرات. ويمكن لخصوم الرئيس أن يستعيدوا بعض تصريحاته بعد وصوله للبيت الأبيض في يناير 2017 عندما صرّح بأنه “رجل ذكي، ولا يحتاج لأجهزة الاستخبارات”، للتأكيد على أن الخطأ يتحمله “ترامب” بمفرده وليس أجهزة استخباراته.
ولأن “ترامب” مقبل على خوض انتخابات الرئاسة لنيل ولاية ثانية في نوفمبر القادم، فيمكن تصور مدى احتمال استغلال الحزب الديمقراطي ومرشحه المحتمل في الانتخابات الرئاسية المقبلة “جو بايدن” لهذه التقارير لإدانة “ترامب”، وتصويره بالرئيس الذي أثبت فشله في التعامل مع واحدة من أكثر الأزمات حدة في التاريخ الأمريكي، وبالتالي فهو لا يستحق منحه الثقة للفوز بولاية ثانية.
تاريخ إخفاقات الاستخبارات قد يخدم “ترامب”
لن تكون المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة، التي يتم فيها توجيه الإدانة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية بسبب إخفاقها في التنبؤ بأحداث وتطورات عالمية خطيرة، مثل وصول الإسلاميين المتشددين للسلطة في إيران عام 1979، أو انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، أو أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
في كل هذه الأحداث كانت المشكلة الأمريكية متكررة، وتتلخص فيما يلي:
١- وجود معلومات استخبارية كافية عن حدث يمكن أن يقع في أي مكان في العالم، ويؤثر على المصالح والأمن الأمريكيين.
٢- اختلاف في تقدير قيمة هذه المعلومات بين أجهزة الاستخبارات المختلفة، وتفاوت في التوصيات الخاصة بكل منها والموجهة لصانع القرار، أو للكيان المسئول عن التقييم النهائي لتوصيات أجهزة الاستخبارات المختلفة.
٣- غموض حول الطريقة التي يحسم بها الرئيس قراره بالعمل وفق توصيات معينة يقدمها له مستشاره للأمن القومي، والتي تكون في النهاية قراءة شخصية أو مؤسسية ضيقة للمعلومات والتحليلات الواردة من عدة أجهزة استخباراتية.
يشير “تيم واينر”، مؤلف كتاب “إرث من الرماد” حول تاريخ الـCIA، إلى المعضلة الحقيقية التي لا تلغي واقع الحقائق الثلاث المشار إليها، وهي قناعة أجهزة الاستخبارات الأمريكية -خاصة CIA- بأنها لكي تحافظ على بقائها كمؤسسة مهمة من مؤسسات الإدارة الحاكمة، عليها أن تجعل الرئيس مستعدًّا لسماعها وأخذ تقاريرها وتوصياتها بجدية. ويقول “واينر”: “إنه مع الأسف أدرك معظم قادة الوكالة أنه من الخطر إطلاع الرئيس على ما لا يريد سماعه”!
ويعني ذلك بوضوح أن السوابق تشير إلى أن CIA لم تكن تقدم بالضرورة التحليلات التي تثق في صحتها، بل يرتبط ما تقدمه من تقارير -في بعض الأحيان- بمعرفتها بما يحب الرئيس أن يسمعه! وهو أمر قد يمنح “ترامب” الفرصة للتنصل من مسئولية إهماله لمذكرات تأتيه من أجهزة استخباراتية أو شخصيات بيروقراطية (جهاز الاستخبارات الطبي، المستشار التجاري) ليست مخولة بسلطة تقديم تقييم نهائي لمغزى المعلومات التي بحوزتها. بل إنه حتى لو كانت التقييمات حول تطورات معينة مُقدّمة من جهاز الاستخبارات الأهم (CIA) فيمكن للرئيس أو مساعديه -وعلى رأسهم مستشاره للأمن القومي- أن يتجاهلها، وهو ما أوضحه مدير الاستخبارات الأمريكية الأسبق “جورج تينت” في كتابه “في قلب العاصفة”، حيث أشار إلى أن التقدير الذي قدمته الاستخبارات عام 1995 قد حذر من المخاطر التي يشكلها الإسلاميون الراديكاليون على الأمن الأمريكي، ومدى قدرتهم على استهداف الرموز القومية الأمريكية (مثل: البيت الأبيض، والبنتاجون، والكابيتول هيل)، ورموز الرأسمالية الأمريكية (مثل وول ستريت)، وأن الطيران الأمريكي على وجه الخصوص هدف سهل اختراقه واستغلاله لتنفيذ أعمال إرهابية.
وكما ظهر السؤال بعد وقوع حادث الحادي عشر من سبتمبر: لماذا أخفقت الاستخبارات في التنبؤ؟ وكما حاولت الاستخبارات إلقاء المسئولية على المستوى السياسي ممثلًا في الرئيس ومستشاريه، فقد يحدث الأمر ذاته إذا ما قرر الديمقراطيون استغلال التقارير التي أشرنا إليها والتي تشير إلى معرفة “ترامب” مسبقًا بخطورة فيروس كورونا للتأثير على فرص “ترامب” في الفوز بولاية ثانية. ولكن كما لم يؤدِّ ذلك إلى إدانة مؤسسة الرئاسة، لا في عهد “بوش الابن” ولا في عهد “أوباما” من بعده؛ فلا يتوقع أن يتأثر الناخب الأمريكي كثيرًا بمحاولات إدانة “ترامب” عن طريق اتهامه بالإهمال في الاستماع للنصائح الاستخباراتية. فالرئيس “ترامب” يبدو أنه نجح حتى الآن في توجيه غضب الجمهور الأمريكي نحو الصين، ونحو منظمة الصحة العالمية، فهو يُصرّ على استخدام تعبير “الفيروس الصيني” رغم أن بعض التقارير تشير إلى أن الفيروس ربما تطور في أجساد البشر عبر سنوات طويلة وليس في بلد بعينه، وأن تقارير أخرى تشير إلى أن أولى الإصابات بالفيروس المتحور قد حدثت في أوروبا وليست آسيا. يساعد “ترامب” على ذلك أن الناخبين البيض (الكتلة الرئيسيّة المؤيدة له) لديها الاستعداد لتصديق مزاعم “ترامب” بأن الفيروس صيني، وأنه ربما جاء نتيجة ثقافة الطعام في الصين التي يشكل أكل الطيور والحيوانات غير المألوفة جزءًا منها. أيضًا يركز “ترامب” على توجيه اللوم لمنظمة الصحة العالمية لأنها أنكرت في البداية إمكانية انتقال الفيروس من الحيوانات للبشر، ثم قبلت بدون فحص البيانات الصينية عن أعداد المصابين والمتوفين بالفيروس لديها. ويعتقد “ترامب” ومؤيدوه أن منظمة الصحة العالمية تلعب دورًا سياسيًّا لصالح الصين بتصويرها على أنها تمكنت من احتواء الوباء بالرغم من أن تقدير العديد من أجهزة الاستخبارات الغربية (وعلى الأخص الاستخبارات الألمانية) تؤكد أن الأعداد تزيد بعشرات الأضعاف عما تُعلنه السلطات الصينية.
قد تنجح مثل هذه الحجج في تقليل قدرة منافس “ترامب” الديمقراطي في الانتخابات المقبلة “جو بايدن” على استغلال ملف كورونا في الدعاية المضادة لترامب، لكن سيظل السؤال مطروحًا: هل كان هناك تقصير استخباراتي؟ أم إهمال من جانب الرئيس “ترامب” وإدارته عندما بدأ وباء كورونا في الظهور؟ وهل تتحمل الاستخبارات الأمريكية وحدها مسئولية الإخفاق في تقدير خطر كورونا؟ أم أن العديد من أجهزة الاستخبارات الغربية ستتحمل المسئولية نفسها في ظل حقيقة وجود بروتوكول لتبادل المعلومات الاستخباراتية البالغة السرية بين ما يُسمى بـ”العيون الخمسة” (استخبارات كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا)؟
في كل الأحوال، لا يُستبعد أن يحاول الديمقراطيون من خلال سيطرتهم على مجلس النواب معاودة المحاولة لوضع “ترامب” رهن التحقيقات مثلما حاولوا وأخفقوا حينما أرادوا عزله في مجلس الشيوخ في يناير الماضي. لكن هذه المعركة ستكون أصعب على الديمقراطيين، إذ من الصعب حسمها سريعًا، فضلًا عن أنه لم يسبق لأي رئيس أمريكي أن تحمل مسئولية أخطاء ارتُكبت تحت مبرر الاستماع لتقارير استخباراتية والأخذ بها، أو تجاهلها وعدم الاعتناء بها كما يُتهم “ترامب” حاليًّا على خلفية انتشار وباء كورونا.