أُحيط مشروع قناة السويس الجديدة مُنذ تدشينه بجدل كبير استمر لفترة طويلة، بدايةً من الجدوى الاقتصادية لإنشائها، مرورًا بما قد ينتج عن القناة الجديدة من كوارث بيئية وطبيعية في البحرين الأحمر والمتوسط، وإغراق إقليم القناة، وأخيرًا مدى قدرة المشروع على رد أرباح شهادات قناة السويس التي بلغت 64 مليار جنيه. أَمَا وقد فنّد الزمن بعضًا من تلك الادّعاءات بحكم بديهيتها، مثل القول بغرق إقليم القناة الذي لم يتأثر بأي شكل، أو عدم قُدرة المشروع على رد حصيلة شهادات القناة التي دُفعت بالكامل وقت كتابة هذا المقال؛ فإن الادعاءات بعدم الجدوى الاقتصادية للقناة ما زالت غير مدروسة وبعيدة عن التناول، خاصة في ظل ما تُعانيه التجارة العالمية من تردٍّ مُنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ودخول العالم مؤخرًا في حرب تجارية بين الولايات المُتحدة وشركائها التجاريين (مثل: الصين، والمكسيك، والاتحاد الأوروبي، واليابان)، وما اختتم مؤخرًا بجائحة كورونا التي مثّلت ضربة قوية للتجارة العالمية.
هذا المقال يُحاول استبيان الأثر الاقتصادي للقناة الجديدة، في ظل هذه التحديات الطارئة والمُنافسة المُستمرة من قناة بنما.
أولًا- الجوانب التنافسية للقناة الجديدة
تخدم قناة السويس عمومًا طُرق التجارة بين الشرق والغرب، وخصوصًا بين آسيا وأوروبا، سواء تجارة النفط والغاز من الخليج العربي لأوروبا، أو تجارة البضائع بين أوروبا ودول شرق وجنوب شرق وجنوب آسيا من الصين واليابان والهند وغيرها، وكذلك تجارة النفط بين الخليج العربي ودول الأمريكتين. بينما تخدم قناة بنما -أهم مُنافسي قناة السويس- طُرق التجارة بين آسيا والولايات والساحل الغربي للأمريكتين، في حين تكمن المُنافسة بين القناتين على الطُّرق التجارية بين موانئ شرق آسيا وشرق الولايات المُتحدة. ويوضح الجدول التالي بعض طُرق الملاحة بين أهم الموانئ من حيث إجمالي حجم ومدد الشحن في كُل منطقة.

ويتضح من الجدول أن الطريق الملاحي الوحيد الذي توجد فيه مُنافسة بين القناتين هو الطريق بين الساحل الشرقي لآسيا والساحل الشرقي للولايات المُتحدة، حيث تقل مسافة العبور من خلال القناتين عن يوم واحد. من جانب آخر، تُعاني قناة بنما من محدودية خطيرة نابعة من كون القناة تعتمد على بوابات لرفع السُفن وخفضها بسبب اختلاف منسوب المياه في المُحيطين الأطلنطي والهادئ، ما يجعل التوسع في طول البوابات وعمقها مُكلفًا للغاية من ناحية، ويُحد من عدد السُفن التي يُمكنها المرور في القناة من ناحية أخرى، وهي مشاكل لا تُعاني منها قناة السويس بذات القدر، حيث يُمكن توسعتها وتعميقها حسب الحاجة وبتكلفة قليلة مُقارنة بقناة بنما، وهو عنصر يُمكن استخدامه لزيادة الميزة التنافسية لقناة السويس مُقارنة بقناة بنما، وهو ما تم فعلًا بحفر قناة السويس الجديدة وتوسيع المجرى الملاحي القديم وتعميقه بحيث يستوعب سُفنًا ذات حجم أكبر لينتهي في أغسطس 2015، ولحقت بها التوسعة الأخيرة لقناة بنما في يونيو 2016 بحيث تستوعب حجمًا جديدًا من السُفن من معيار New Panamamax، والذي يُقارنه الشكل التالي بأكبر حجم للسُفن يمُكنه عبور قناة السويس فيما يُسمى بـSuezmax.

ويتضح من الشكل أن سعة قناة السويس التحميلية تبلغ تقريبًا ضعف سعة قناة بنما، مما يزيد من تنافسيتها، بالإضافة إلى أن القناة الجديدة اختصرت وقت المرور إلى 11 ساعة فقط بعدما كانت 18 ساعة.
ثانيًا- حركة السُفن وحمولتها بالقناة
مرّ في قناة السويس خلال عام 2019 نحو 18.8 ألف سفينة، وذلك بمتوسط 52 سفينة تقريبًا يوميًّا، ومنذ مطلع القرن الحالي شهد عام 2008 مرور أكبر عددٍ منها في عام واحد، إذ بلغ عدد السُفن خلال ذلك العام مرور 21.4 ألف سفينة وبمتوسط 58 سفينة يوميًّا؛ إلا أن هذه المُعدلات انهارت عقب الأزمة المالية العالمية في العام ذاته والتي أسفرت عن انخفاض نمو الناتج الإجمالي العالمي من مستوى 4.3% في عام 2007 إلى 1.85% في عام 2008، ثم -1.67% في عام 2009، وما زالت تأثيراتها مُستمرة حتى الآن، حيث بقي النمو في كثيرٍ من البلدان دون المستويات التي كانت لتسود فيما لو ظل على اتجاهه العام في فترة ما قبل الأزمة وفقًا لتقرير لصندوق النقد الدولي نُشر في أكتوبر 2018. وقد شهدت القناة التأثير ذاته، كما يوضح الشكل التالي.

ويتضح من الشكل أن عدد السُفن التي عبرت القناة في أغسطس عام 2008 بلغ 1993 سفينة لتنخفض بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية إلى 1272 سفينة بحلول فبراير عام 2009، وتستمر متوسطات المرور في الانخفاض ليستوي الخط العام لأعداد السُفن بداية من عام 2012 وحتى افتتاح القناة الجديدة في أغسطس 2015، حيث دارت مستويات المرور حول 17 ألف سفينة في المتوسط سنويًّا، ليبدأ التحول في اتجاه الخط العام، ويرتفع مستوى المرور بشكل كبير ليصل في عام 2018 إلى 18.1 ألف، وفي 2019 إلى 19 ألف سفينة تقريبًا.
كما شهدت حمولات السُّفن اتجاهًا مُشابهًا فيما أعقب الأزمة المالية العالمية، حيث انخفضت الحمولات العابرة من 84.1 مليون طن في أغسطس 2008 إلى 53.1 مليون طن في فبراير 2009، لكن ما يختلف في شأن الحمولة عن أعداد السُّفن هو اتجاه الحمولات باستمرار إلى النمو، وذلك رغم تباطؤ نمو أعداد السُفن العابرة بسبب اتجاه حمولة السُفن العابرة إلى الارتفاع المُستمر مما ينعكس على عدد السُفن، حيث يظل وزن الحمولة العابرة محكومًا بحجم التجارة العالمية، ويوضح الشكل التالي هذا الاتجاه.

ويتضح من الشكل أن الاتجاه البطيء في النمو خلال الفترة من 2009 وحتى أواخر 2015، تحول إلى تسارع بعد افتتاح القناة الجديدة، ويظهر ذلك بجلاء في ارتفاع متوسط الحمولات في السنوات الأربع السابقة على حفر القناة الجديدة من 950 مليون طن سنويًّا إلى 1.09 مليار طن في السنوات الأربع التالية لحفرها، وارتفاع المتوسط اليومي للحمولة العابرة من 2.6 مليون طن في عام 2014 إلى 3.3 ملايين في 2019، وذلك بزيادة نسبتها 25% في المتوسط اليومي.
ثالثًا- تطور رسوم العبور وإيرادات القناة
تُحسب رسوم قناة السويس بعملة صندوق النقد الدولي التي يُطلق عليها حقوق السحب الخاصة SDR، وتتشكل الـSDR من أوزان ثابتة من خمس عُملات رئيسية، هي: الدولار الأمريكي، واليورو، واليوان، والين، والإسترليني. وتُراجع هذه الأوزان كل خمسة أعوام، وقد بلغ ثمن الدولار الواحد 1.36 SDR في المتوسط خلال إبريل 2020. من جانب آخر، يعتمد حساب رسوم عبور القناة على عدة عوامل، أهمها وزن السفينة، ونوعها، وإذا ما كانت مُحملة أم فارغة؛ فكُلما زاد وزن العبور ارتفعت الرسوم، على أن وزن أول 5 آلاف طن يكون الأعلى بعد ذلك يتجه السعر إلى الانخفاض مع ازدياد الوزن. ويُقارن الجدول التالي بين رسوم عبور ناقلات النفط وناقلات الحاويات وفقًا لرسوم 1/04/2020.

ولم تشهد رسوم عبور القناة ارتفاعات كبيرة مُنذ عام 2008، نظرًا لما تُعانيه التجارة الدولية من تراجع، وكذلك المُنافسة التي تلقاها القناة بسبب ذوبان الجليد في القطب الشمالي، مما يفتح ممرًّا آخر للعبور بين الشرق والغرب. بالإضافة إلى أن ما تشهده أسعار النفط من انخفاض يُتيح للسُفن المرور عبر طريق رأس الرجاء الصالح بسبب انخفاض تكلفة الوقود مُقارنةً برسوم العبور من القناة، مما يدفع إدارة القناة أحيانًا لتقديم تخفيضات لشركات الشحن وخطوط الملاحة الكُبرى لجذبها من جديد للمرور عبر القناة. ويُقارن الجدول التالي بين رسوم مرور ناقلات النفط في عامي 2008 و2012 والرسوم الحالية.

ويُشير الجدول إلى أن رسوم الخمسة آلاف طن الأولى ارتفعت بنسبة 3% خلال اثني عشر عامًا، بينما كانت أكبر الفئات ارتفاعًا هي نسبة 23% على الفئة الوزنية الرابعة، يليها 20% على الفئة الوزنية الخامسة. ويُشير ذلك إلى أن التغير في إيرادات القناة سيكون راجعًا -في مُعظمه- إلى التغيُر في أوزان المرور وليس في الرسوم المفروضة عليها.
وأخيرًا فإنه بالنظر إلى إيرادات القناة نجد أنها سلكت الاتجاه ذاته الذي سلكته الحمولة، وهو ما يؤكد الحقيقة السابق الإشارة إليها، حيث انخفضت إلى أدنى مستوى لها خلال الفترة من 2007 وحتى فبراير 2009 بعد الأزمة المالية العالمية وذلك عندما حققت إيرادًا شهريًّا بلغ 302 ملايين دولار تقريبًا، لكنها بدأت في تعافٍ بطيء مُجددًا بلغ ذروته في الفترة ما بين الأزمة العالمية وحفر القناة الجديدة في أغسطس 2014 عندما حققت 510 ملايين دولار، كما يوضح الشكل التالي.

وبعد افتتاح القناة الجديدة شهدت الإيرادات انخفاضًا في عام 2016 عندما بلغت 5 مليارات دولار، وذلك مُقارنة بعام 2015 عندما حققت 5.1 مليارات دولار، لكنها عاودت الارتفاع خلال الأعوام الثلاثة التالية. ففي عام 2017، حققت القناة 5.2 مليارات دولار، ثم في عام 2018 حققت رقمًا قياسيًّا بتسجيل أعلى إيراد سنوي في تاريخها حينئذ، وذلك عندما بلغت 5.7 مليارات دولار، لكن عام 2019 جاء ليكسر هذا الرقم القياسي لتحقق القناة إيرادات قدرها 5.8 مليارات دولار. كما شهد العام نفسه أعلى إيراد شهري في تاريخ القناة خلال أكتوبر، حيث بلغت الإيرادات 517.7 مليون دولار.
جدير بالذكر أن هذه الإيرادات تحققت في ظل مناخ عام من الاضطراب في الاقتصاد الدولي، وسيطرة عدم اليقين على مُعدلات الاستثمار، بسبب الحروب التجارية وخروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما أثر على مُعدلات النمو العالمية وحصرها في منطقة دون 3% مُنذ الأزمة المالية العالمية، الأمر الذي كان يؤشر بشدة إلى اتجاه إيرادات القناة إلى النمو، خاصة مع الاستقرار الذي ساد الاقتصاد العالمي بعد التسوية المبدئية للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، واتفاق الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على أساسيات الخروج، لكن جاءت جائحة كورونا لتُغير هذه المُعادلة، وتُدخل العالم من جديد في مُنحنى ركود أكبر من ذلك الذي سببته الأزمة المالية، حيث يتوقع صندوق النقد انكماش الناتج المحلي العالمي بنحو 3%، وهو ما يؤثر حتمًا على حجم التجارة الدولية، وتبعًا لها إيرادات قناة السويس.
مما سبق نخلص إلى أن القناة الجديدة مشروع تاريخي، استطاع الحفاظ على المكانة الرائدة للقناة، حيث ما زالت قادرة على استيعاب سُفن ضعف تلك التي تستوعبها قناة بنما رغم انتهاء توسعة الأخيرة في 2016، كما نتج عنها ارتفاع حمولة السُفن العابرة للقناة وانخفاض وقت المرور، مما أدى إلى تحقيق القناة في عامي 2018 و2019 أكبر إيرادات في تاريخها على الإطلاق.