حسنا فعلت الحكومة المصرية بالإعلان عن عزمها على تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي المتعلقة بالإصلاح الهيكلي. فرغم النتائج الإيجابية التي تحققت خلال المرحلة الأولى من الإصلاح حيث حقق الاقتصاد القومي نموا بمعدل 3.6% عام 2019/2020 مقابل 5.6%عام 2018/2019 وهو معدل معقول جدا في ظل الأوضاع الاقتصادية السائدة مع انتشار فيروس كورونا، وتراجع معدلات التضخم إلى 5.7% على أساس سنوي، متأثرا بتراجع معدل التضخم للطعام والشراب، جنبا إلى جنب مع استقرار قيمة الجنيه المصري في مواجهة العملات الأجنبية، فإن الوضع الحالي مازال يعانى مشكلات عديدة يأتي على رأسها تباطؤ نمو القطاعات الإنتاجية ، حيث لم يزد معدل نمو الصناعات التحويلية عن 1.4% خلال العام المالي 2019/2020 مقابل 2.8% عام 2018/2019 وكذلك الزراعة التي حققت معدلا بلغ 3%، ولذلك اعتمد النمو المتحقق في الناتج على الخدمات الاجتماعية خاصة الأنشطة العقارية وتجارة الجملة والتجزئة. فضلا عن هشاشة سوق العمل وتزايد معدلات الانسحاب من السوق، وانخفاض معدل الادخار المحلى إلى 6.2% وزيادة الدين العام وارتفاع معدلات الفقر وسوء توزيع الدخول، وهي أمور تتطلب تعديل المسار الاقتصادي الراهن والسير به في الاتجاهات التي تستطيع علاج هذه المشكلات.
السياسة الاقتصادية في المرحلة الأولى ركزت على إعادة التوازن إلى الموازين الأساسية للاقتصاد، أي الموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات، وبعد انتهاء هذه المرحلة أصبح لزاما الانتقال إلى المرحلة الثانية والأهم والتي يتم التركيز فيها على قضايا الإنتاج والإنتاجية من خلال التوسع المنظم والفعال في بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن. وذلك عن طريق إحداث تحول جذري في المجتمع يؤدى إلى القضاء على المشكلات الاقتصادية ويزود المجتمع بآليات التقدم والنهضة. وهي عملية متعددة الجوانب من حيث كونها تعيد تشكيل الهيكل الاقتصادي والإنتاجي بالبلاد من خلال إعادة النمو المتوازن لفروع الإنتاج وتعمل على بناء قاعدة إنتاجية قوية تساعد على زيادة الإنتاج ورفع معيشة الأفراد. ويشير الفكر الاقتصادي إلى أن نجاح سياسة اقتصادية معينة، يتوقف على تحقيق مجموعة من الشروط، مع ضمان استمراريتها فترة لا بأس بها من الزمن، وهى تتعلق بالأساس بتحقيق معدل نمو للناتج المحلى الإجمالي، يفوق معدل النمو السكاني، حتى يمكن تحقيق تحسن في مستويات المعيشة، وإيجاد المزيد من فرص التوظف لجميع الداخلين إلى سوق العمل، والوفاء بمتطلبات الاستقرار في الأسعار، مع توزيع ثمار النمو على مختلف فئات المجتمع، والحد من التفاوت في توزيع الدخل. على أن يتم ذلك كله مع حماية البيئة حتى يمكن الحفاظ على نوعية الحياة بالنسبة للأجيال القادمة. مع إدراك أن الجدل العقيم، حول حتمية تعارض هدفي النمو السريع واعتبارات العدالة، قد انتهى تماما إذ يقدم التاريخ الاقتصادي الحديث، العديد من الدلائل على إمكانية تحقيق هذين الهدفين في آن واحد. وبالتالي لابد من سياسات واضحة يتقبلها المجتمع ككل في ضوء أهداف واقعية محددة. إذ إن اختيار بديل تنموي معين لا يعد عملا فنيا محايدا على الإطلاق، وذلك لأن كل بديل ينطلق من رؤية معينة ومصالح محددة ويترتب عليه نتائج مختلفة لفئات المجتمع، بل إن اختيار بديل معين قد يترتب عليه اتخاذ مواقف معينة تجاه قوى أو دول أخرى. من هنا تأتى أهمية الحوار المجتمعي للوصول إلى أفضل البدائل التنموية المتاحة لتحقيق أهداف الإصلاح الهيكلي المنشود.
الأمر الذي يتطلب البعد عن أسلوب صنع القرار المقولب، أي يجب إدراك الخصائص المميزة للدولة وهنا نتفق مع ما ذهب إليه المفكر الاقتصادي الراحل د. محمود عبد الفضيل من أن الدولة التنموية هي التي تؤسس شرعيتها على قدرتها على إطلاق عملية تنموية متواصلة لا تقتصر فقط على رفع معدل النمو الاقتصادي، وإنما الأهم هو إحداث تحولات جذرية في هيكل الإنتاج المحلى وإحداث تحولات مهمة في النظام الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية القائمة.
وتتطلب الإصلاحات الهيكلية توفير بعض المهارات الفنية اللازمة لعملية الإصلاح الهيكلي في مختلف القطاعات الاقتصادية. ذلك من خلال العمل على ثلاثة محاور أولها يكمن في إحداث التغييرات الهيكلية المطلوبة في الاقتصاد المصري التي تساعد على زيادة قدرته على إيجاد المزيد من فرص العمل، وتوليد الدخول لجميع فئات المجتمع. بالإضافة إلى تدعيم القواعد الإنتاجية القائمة «خاصة في الزراعة والصناعات التحويلية» وإزالة المعوقات التي تحول دون تفعيلها. جنبا إلى جنب مع مراعاة الفئات الاجتماعية الضعيفة ومحدودي الدخل عن طريق زيادة قدرتهم على الكسب وإصلاح سياسة الدعم.
وهكذا تتوزع الأدوار بين الفاعلين الرئيسيين في الاقتصاد، فالحكومة عليها عدة أدوار أساسية منها ضمان كفاءة آلية السوق بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التي تجعل تفاعل العرض والطلب يتم في إطار حقيقي مع ضمان التخطيط الاستثماري السليم عن طريق توفير البيانات والمعلومات الأساسية عن القطاعات الاقتصادية بالمجتمع، وذلك بالشكل الذي يمكن الجميع من إجراء دراسات الجدوى السليمة والصحيحة. وكذلك توفير المناخ الاستثماري الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية. ووضع القوانين موضع التنفيذ. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة في الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو. وبمعنى آخر فانه بقدر مالا يمكن إهمال آلية السوق وجهاز الثمن، إلا انه لا يمكن أن يستمر ذلك دون التدخل الذكي والمنظم من جانب الدولة. ولتحقيق هذه الأهداف، لابد أن يتحرك المجتمع من خلال منظومة تنموية متكاملة تهدف إلى الارتفاع بمعدلات التنمية وتحقيق الرفاهية والارتقاء بمستوى معيشة الأفراد. وذلك من خلال تحديث المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا معتمدا على قراءة علمية ودقيقة لإمكانياته وعلى وعى وإدراك بالمتغيرات العالمية والإقليمية للاستفادة من مزاياها واكتشاف مخاطرها. وهو ما يحتاج إلى المزيد من التأمل وإعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية.