تعتبر تركيا أن وجودها في منطقة شرق المتوسط وفرض مصالحها على كافة الأطراف الفاعلة فيها شرط لتحقيق أمنها القومي ومصلحة استراتيجية عليا. وبغض النظر عن مدى مشروعية هذه المصالح التركية؛ فإن تركيا تعتمد على القوة بالأساس لتحقيق هذه المصالح. والقوة التركية هنا تعتمد على فرض الأمر الواقع على دول شرق المتوسط اعتمادًا على وسيلتين أساسيتين:
الأولى، محاولة إيجاد مشروعية قانونية زائفة؛ ولهذا وقعت تركيا مع قبرص التركية اتفاقًا عام 2011 لترسيم الجرف القاري بينهما، وهو الاتفاق الذي اعتمدت عليه للمطالبة بحقوقها في المناطق المتداخلة مع المنطقة الاقتصادية القبرصية. كما وقعت اتفاقًا مع حكومة الوفاق في ليبيا في نوفمبر 2019 لترسيم الحدود البحرية بينهما، وهو اتفاق ينتهك الحدود البحرية لكل من اليونان وقبرص، بما يزيد من فرص الاختلافات المحتملة بسبب الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية لدول شرق المتوسط (انظر الخريطة التالية).
الثانية، القيام بأعمال التنقيب بشكل غير مشروع في المنطقة الاقتصادية لقبرص، وحصول شركاتها على موافقة حكومة الوفاق الليبي لبدء أعمال التنقيب في المنطقة الاقتصادية الليبية.
وزادت تركيا من تحركاتها الاستفزازية ضد دول شرق المتوسط، خاصة اليونان وقبرص ومصر. والتي يمكن توضيحها فيما يلي:
1- قامت وزارة الخارجية التركية في 2 يونيو 2020 بتقديم خريطة تظهر “حقول التنقيب الجديدة” في شرق المتوسط، والتي تقدمت أنقرة مسبقًا بطلب إلى الأمم المتحدة للحصول على رخصة التنقيب عن الطاقة فيها. وتأتي إشكالية الخريطة الجديدة –الموضحة أدناه- من كونها تضم مناطق تقع بالمياه الاقتصادية الخالصة لليونان، وتحديدًا قبالة سواحل جزر رودس وكارباثوس وكريت اليونانية. ويضاف إلى ذلك ما أعلنه وزير الطاقة التركي عن بدء أعمال التنقيب بتلك المنطقة في غضون ثلاثة إلى أربعة أشهر.
2- استمرار تركيا في نشر سلسلة من الطلبات المقدمة من مؤسسة البترول التركية لمنح تصاريح الاستكشاف والاستغلال في مناطق داخل الجرف القاري لليونان في الجريدة الرسمية للحكومة التركية، وهو الأمر الذي عدّه الجانب اليوناني واحدًا من العديد من الإجراءات التي تحاول تركيا من خلالها اغتصاب حقوق اليونان السيادية.
3- الطلب المقدم من شركة البترول التركية (تباو) بتاريخ 30 مايو للحصول على إذن بالتنقيب في شرق البحر المتوسط في المنطقة الواقعة بين جزيرتي كريت ورودس اليونانيتين، واعتبار ذلك إنذارًا نهائيًا لليونان، بما يعني إما حل جميع النزاعات بين البلدين أو “أن تدفع اليونان ثمن” مواجهة تركيا، وفقًا لتحذير أردوغان في 25 يوليو الماضي.
4- منذ يونيو 2020 تتسلل تركيا إلى المناطق الاقتصادية المصرية واليونانية، من خلال ما ترسله من إخطارات وإنذارات عبر نافتكس، وهي أحد مكونات خدمة تحذير الملاحة العالمية للمنظمة البحرية الدولية. مفاد هذه الإخطارات والإنذارات أنها تقوم -أو ستقوم- بعمل عملية مسح زلزالي للكشف عن آبار للطاقة، سواء من البترول أو الغاز الطبيعي. وفي النصف الثاني من يوليو كاد الإخطار الذي أرسلته تركيا إلى “نافتكس” أن يشعل الموقف بينها وبين اليونان، حيث ارتفع التوتر بشدة بعد إعلان تركيا عزمها التنقيب في منطقة تعتبرها اليونان مياهها الاقتصادية. ولم تهدأ حدة التوتر إلا بعد تدخل ألمانيا للوساطة بين الطرفين، مما اضطر تركيا إلى إيقاف أنشطتها مؤقتًا، وتعليق عمليات سفينة الأبحاث السيزمية التركية “أوروج ريس” لمدة شهر واحد لإتاحة مساحة للمفاوضات.
5- أرسلت تركيا إنذارًا بأنها ستقوم بأعمال مسح زلزالي في الفترة من 21 يوليو إلى 2 أغسطس 2020، في منطقة شائكة شرقي المتوسط، وهو ما اعترضت عليه مصر في بيان رسمي لتداخل النقطة رقم (8) الواردة بالإنذار الملاحي مع المنطقة الاقتصادية الخالصة المصرية، مؤكدة أن ذلك الإجراء لا يتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ويخالف أحكام القانون الدولي، بل يشكل انتهاكًا واعتداءً على حقوق مصر السيادية في منطقتها الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط.
6- أصدرت البحرية التركية إخطارًا ملاحيًا بأن السفينة التابعة لها “عروج ريس”، ستجري عمليات مسح زلزالي في شرق البحر المتوسط خلال الأسبوعين الفترة من 10 إلى 23 أغسطس 2020، ردًا على إبرام اتفاقية بين مصر واليونان لترسيم الحدود البحرية بينهما.
إن الهدف النهائي من تحركات تركيا هو فرض نفوذ دائم لها في شرق المتوسط، والاستفادة من اكتشافات النفط والغاز بها والمشروعات المترتبة على هذه الاكتشافات. ورغم ذلك تُدرك أنقرة جيدًا أنه لن يمكنها فرض مصالحها من خلال السيطرة العسكرية، خاصة في المناطق البحرية الجديدة التي اكتسبتها بموجب بروتوكول ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبي دون المخاطرة بنشوب صراع عسكري أوسع مع بعض دول شرق المتوسط، وفي مقدمتها اليونان عضو حلف شمال الأطلنطي وعضو الاتحاد الأوروبي.
كيف تواجه دول شرق المتوسط تهديدات تركيا؟
إن دول شرق المتوسط التي يجمعها منتدى غاز شرق المتوسط تهدف إلى التعاون فيما بينها للاستفادة من الاكتشافات الضخمة في هذه المنطقة والتي يقدر احتياطي الغاز فيها بحوالي 354 تريليون قدم مكعب، بخلاف النفط. ولأن منطقة شرق المتوسط تتسم بتداخل الحدود البحرية بين الدول، ومن ثم زيادة فرص تداخل المناطق الاقتصادية للدول، فقد اتجهت إلى ترسيم الحدود البحرية بينها بغرض تنظيم علاقاتها للحد من أية اختلافات محتملة حول هذه الحدود قد تؤدي للصراع حول حماية المصالح والحقوق في اكتشافات الغاز وفقًا لكل دولة على حدة.
وبصفة عامة، يمكن القول إن دول شرق المتوسط التي يتم تهديد مصالحها من قِبل تركيا، تلجأ لعدة وسائل لتأمين مجالها الحيوي في شرق المتوسط، ومن أهم هذه الوسائل:
1- الردع، حيث قامت اليونان بنشر سريع لأسطولها لمواجهة امتداد أعمال التنقيب التركي في المنطقة الاقتصادية للجزر اليونانية، والتي تجاهلت تركيا السيادة اليونانية عليها في الاتفاق المبرم مع حكومة الوفاق الليبي في 2019. وفي السياق نفسه أجرت مصر عدة تدريبات ومناورات بحرية مشتركة مع قبرص واليونان وفرنسا.
2- الاستناد إلى القانون الدولي، من خلال اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين الدول في شرق المتوسط، مثل اتفاق عام 2007 بين قبرص ولبنان، واتفاق عام 2010 بين قبرص وإسرائيل لتحديد المنطقة الاقتصادية بينهما، واتفاق عام 2013 لترسيم الحدود بين مصر وقبرص. وقد سبق أن أعلن رئيس الوزراء اليوناني، كرياكوس ميتسوتاكيس، أن اليونان مستعدة للتفاوض مع تركيا بشأن عمليات التنقيب في شرق المتوسط، بشرط عدم استعمال تركيا لأي لهجة تهديد أو بلطجة، وفي حال فشل المفاوضات فإن بلاده مستعدة للجوء إلى محكمة العدل الدولية في مسألة ترسيم حدود المناطق البحرية.
هل كانت تركيا جادة في تفاوضها مع اليونان؟
رغم موافقة تركيا على وساطة ألمانيا بينها وبين اليونان، لكن إلى أي مدى كانت أنقرة جادة بالفعل في هذه المحادثات؟ لقد أجاب بعض المحللين اليونانيين بأن تركيا ليست جادة في التفاهم أو التفاوض مع اليونان، وذلك لعدة اعتبارات، أبرزها:
1- أن السياسة التركية تسترشد بعقيدة “الوطن الأزرق” التي طرحها الأدميرال جيم غوردينيز لأول مرة في يونيو 2006 خلال ندوة في مركز قيادة القوات البحرية التركية، وتعززها اليوم مذكرة التفاهم غير القانونية بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية التي وُقّعت العام الماضي بشأن ترسيم حدود البحر المتوسط. فلماذا لم تتفاوض تركيا مع اليونان لترسيم الحدود البحرية بينهما قبل هذه المذكرة التي تجاهلت فيها سيادة اليونان على بعض الجزر؟!
2- أثارت تركيا مجموعة واسعة من القضايا في محادثاتها مع اليونان، إذ قدمت مطالبات بشأن عدد من الملفات، شملت العديد من الجزر اليونانية والأقلية المسلمة في منطقة تراقيا الشمالية، وتجريد جزر شرق بحر إيجه من السلاح، والاستغلال التركي المشترك للموارد اليونانية والقبرصية. بينما رأت اليونان أن تقتصر المحادثات على الجرف القاري، وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة في بحر إيجه وشرق البحر المتوسط، باعتباره القضية الوحيدة التي سيشملها التفاوض.
3- لم تتوقف الإنذارات التي ترسلها تركيا للتنقيب في مياه المتوسط أثناء سير المحادثات مع اليونان تحت الرعاية الألمانية، لكنها انتقلت من منطقة لأخرى.
إن الاعتبارات السابقة توضح أن تركيا لا تريد إغضاب الجانب الأوروبي أو تثيره بعد أن انكشفت سياستها العدائية في الإقليم كله وليس في شرق المتوسط فقط، وبعد أن عكست سياستها تجاه اليونان فصلًا جديدًا من الابتزاز التركي للدول الأوروبية، تارة بدفع اللاجئين إلى أوروبا عبر البوابة اليونانية، وتارة عبر التهديد بتنشيط الإرهابيين في أوروبا من خلال علاقات أنقرة وثيقة الصلة بكافة التنظيمات الإرهابية، وكذلك سياستها لابتزاز أوروبا من خلال أعمال التنقيب غير المشروع في المنطقة الاقتصادية لقبرص ولليونان أيضًا. ولم يكن انخراط تركيا في محادثات مع اليونان دليلًا على حسن نوايا تركيا، لكنه أكد نواياها لاستخدام كافة أشكال القوة لفرض وجودها في المتوسط وفرض حقوق هي لا تمتلكها.
تأمين المجال الحيوي لدول شرق المتوسط
إن دول شرق المتوسط التي تتحرش بها تركيا، اعتمدت على التأهب العسكري للدفاع عن حقوقها في الإقليم إذا ما تعرضت لهجوم عسكري مباشر، كما لجأت إلى ترسيم الحدود لحماية مجالها الحيوي من أية اعتداءات تركية محتملة.
في هذا السياق، قامت اليونان بإبرام اتفاق مع إيطاليا في التاسع من يونيو 2020 لتعيين حدودهما البحرية؛ بهدف استكشاف الموارد البحرية واستغلالها. وبحسب وزير الخارجية اليوناني “نيكوس دندياس” فإن مسألة تعيين حدود المناطق البحرية مع كل جيران اليونان في إطار القانون الدولي يعد هدفًا ثابتًا في السياسة اليونانية. ويعد هذا الاتفاق امتدادًا لاتفاق عام 1977 بشأن الجرف القاري، والذي يضمن “حق الجزر في أن تكون لديها مناطق بحرية”، ويمهد الطريق لتفكيك المشاكل التي نشأت من جانب ألبانيا لترسيم الحدود. وقد جاء هذا الاتفاق للتأكيد على سيادة اليونان على جزر بحر إيجه، وذلك من خلال ما أرساه من ضمان أن يكون للجزر الحق في مناطق بحرية خالصة على النحو المحدد في قانون البحار الدولي. وبحسب المحللين، فإن هذا الأمر “يضعف مبررات أنقرة في التنقيب عن النفط خارج حدودها بالبحر المتوسط، ويجعل أردوغان في مواجهة دولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي، ستتحركان بشكل مشترك للدفاع عن منطقتهما الاقتصادية بالجرف القاري اليوناني-الإيطالي.
كذلك، قامت مصر واليونان بتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بينهما في 6 أغسطس 2020 بعد ما يقرب من 13 جولة تفاوضية خلال أكثر من 15 عامًا. وتساهم الاتفاقية في إضفاء شرعية قانونية ودولية على كافة الأنشطة البحرية المتعلقة باستغلال الثروات الطبيعية في المنطقة المشمولة بالاتفاق، كما أنها تؤمن حقوق البلدين في أية اكتشافات مستقبلية للغاز في تلك المنطقة.
لماذا لا تلجأ تركيا للقانون في شرق المتوسط؟
من الطبيعي أن ترفض تركيا هذه الاتفاقيات القانونية وتسعى لإنكارها أو اعتبارها ملغاة، كما صرح مسئولو تركيا، بل وتعمل تركيا على تصعيد التوتر وعدم الاستقرار في شرق المتوسط كرد فعل أساسي على مثل هذه الاتفاقيات القانونية، واتخذت بعض الإجراءات لمواجهة تقييد تحركاتها بالقانون في شرق المتوسط، منها:
1- الاستمرار في ممارسة سياساتها التصعيدية ضد اليونان على وجه التحديد، وقامت وزارة الدفاع التركية بإجراء مناورات واسعة شرق المتوسط، أطلق عليها اسم “أعالي البحار”، وذلك يوم 11 يونيو 2020، عقب الاتفاق مع إيطاليا.
2- إعلان تركيا بعد توقيع الاتفاق بين مصر واليونان عزمها إجراء تدريبات بالذخيرة الحية لقواتها البحرية في مناطق بشرق المتوسط خلال الفترة بين 10 – 11 أغسطس 2020، مع التأكيد على استمرارها في مواصلة أعمال التنقيب عن الغاز في المنطقة، كما سبق.
3- شن حملة إعلامية من خلال القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية التركية والقطرية للتشكيك في جدوى الاتفاق الأخير بين مصر واليونان للإساءة إلى حكومتي الدولتين، في محاولة لإثارة الرأي العام الداخلي في الدولتين ضد الاتفاق.
4- توجيه الدعوة لعقد اجتماع تحضره كافة دول البحر المتوسط لإيجاد صيغة مقبولة تحمي حقوق الجميع وذلك يوم 10 أغسطس 2020، بعد انعقاد مجلس الأمن القومي اليوناني للرد على اتجاه تركيا لإعادة التنقيب في المنطقة الاقتصادية اليونانية. ورغم سلمية هذه الدعوة وعدم اتساقها مع غطرسة لغة الخطاب التركي والسياسة الاستعلائية العدائية التي تستخدمها تركيا في الإقليم لفرض مصالحها، فإنها تعكس إما عدم رغبة تركيا في التصعيد في هذه المرحلة تحسبًا لرد فعل أوروبي وربما غربي عنيف، خاصة مع مساندة الاتحاد الأوروبي لليونان ودعم الولايات المتحدة لها وفقًا لقانون 3+1 المعروف، أو أنها تنتوي التصعيد كرد فعل على رفض أغلب دول المتوسط لهذه الدعوة، خاصة اليونان ومصر.
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم تلجأ تركيا للقانون الدولي لحماية مصالحها في شرق المتوسط، إذا كانت لديها حقوق مشروعة هناك؟ بل إن الاتفاق الوحيد الذي وقعته مع حكومة الوفاق (نوفمبر 2019) لا يتماشى مع قواعد القانون الدولي للبحار، كما أنه افتقد للاعتراف الدولي إذ لم تقره أو تعترف به أيٌّ من الدول باستثناء الطرفين الموقعين!
مجمل القول، إن ترسيم الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط يعد الوسيلة القانونية الفعالة لضمان حقوق الدول وتجنب الصراعات، ويؤكد رد فعل تركيا على اتفاقيات ترسيم الحدود أنها تسير في مسار صحيح لحماية حقوق دول شرق المتوسط.