بعد خمسة أشهر من تفشي جائحة كورونا، وبعد أكثر من شهرين من الحجر الصحي، يبدو أن العالم بدأ يتجه للمرحلة الثانية في التعامل مع الجائحة، وهي مرحلة “التعايش”، التي بدأت فعلا بعودة الحياة اليومية – في بعض الدول الأوروبية (ألمانيا واسبانيا) والولايات الامريكية (ولاية فلوريدا) – مع فيروس بلا لقاح. الإنسان مطالب اليوم بالتعايش ولفترة غير معروفة مع هذا الفيروس، الذي بعد موجته الفتاكة الأولى، سيصيح موسميا ومستمر التواجد داخل الأجسام البشرية، خاصة أن هناك من الأشخاص من يحمل الفيروس ولكن لا تظهر عليه أي عوارض صحية، مما يحوله إلى حاضنة للفيروس ويمكن أن ينقله في أي وقت وفي أي مكان.
خلال الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة، سوف تعود الحياة تدريجيا إلى نبضها، ولو بشكل بطيء. وسوف تعود الحرية اليومية في التنقل؛ والتي لم يكن أحد يبالي بها قبل أن يفرض “كوفيد 19” شروطه على البشرية وأولها منع الحركة والالتزام بالبيوت؛ لكن هذه الحرية لن تكون مطلقة ولن تكون بنفس الشكل الذي كانت عليه قبل الجائحة. ستبقى قيود التباعد الاجتماعي مفروضة لوقت طويل، وسوف يتغير بروتوكول السلام وطقوس التحية التي عمرت لقرون، وسوف تفرض قوانين وتعاليم جديدة سواء على مستوى الصحة الشخصية أو الوقاية الجماعية، وهو ما قامت به بعض الدول من خلال فرض ارتداء الكمامات الصحية.
إن الأوبئة تفرض علينا تصرفات استثنائية تعارض ما تعودنا عليه أو ما استقر عليه الأمر من حقوق وأحكام في الأوقات الطبيعية. وقد فرض علينا فيروس كورونا المستجد عزلة ونحن في الحجر وعزلة أخرى لن تنتهي بعد رفعه. وفرض علينا إعادة تعلم الأبجديات البسيطة والبدائية والأولية لحركتنا اليومية. كما أنه جعلنا نشعر بأن المخاطر المحدقة بالمجتمع حقيقية، وبأن الكثير من المفاهيم، التي كنا نعتبرها محاطة بضمانات أبدية، سيعشر الإنسان مستقبلا بالقلق إزاءها.
إن كل الإجراءات التي واكبت ظهور الموجة الأولى من الجائحة، أو تلك التي ستلي مرحلة رفع الحجر الصحي التدريجي وربما الكلي، سوف تتعارض مع المبادئ الأساسية لحقوق الانسان، لكنها تجد، في المقابل، مسوغات أخلاقية وقيم إنسانية من أجل تمريرها وقبولها لدى المواطنين، ومنها حفظ الحياة والصحة، والمسؤولية الأخلاقية تجاه النفس والمجتمع، ومسؤولية الدولة تجاه المجتمع، ومسؤولية المجتمع تجاه سلامة كافة افراده. وتغلب النزعة المجتمعية على الفردية حيث تزايد الشعور بأن مصير الفرد مرتبط بمصير المجتمع والعكس صحيح، وحيث أصبح الحس التضامني هو أحد معايير التماسك المجتمعي، وحيث بات التكيف مع الإجراءات الوقائية، مهما بلغت درجة تقييدها للحريات الفردية، هو تعبير عن أخلاقيات المواطنة.
مثلما أعادت جائحة كورونا الإنسان إلى كينونته وإعادة إحياء الروابط الأسرية التي طالما تم إهمالها أو تبخيسها، فهي رفعت أيضا من أهمية القيم الإنسانية التي تركز على العمل الجماعي والتعاون المتبادل وعلى تقدير قيمة الإنسان والمحافظة على حياته بقدر الإمكان ووقايته من الأوبئة والأمراض المفاجئة. كما قامت بتعزيز العلاقات الاجتماعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأعادت للمثقف والباحث مكانته المجتمعية من خلال إسهامه في نشر ثقافة الوعي عبر خاصية المباشر، حيث لاحظنا كيف أسهم الدكتور والمفكر والمحلل النفسي وعالم الاجتماع وغيرهم في بلورة لقاءات وندوات في العالم الافتراضي، تعزيزا -أولا- من قرارات التباعد الاجتماعي، وإجابة -ثانيا- عن تساؤلات المواطنين وهواجسهم بخصوص هذا الوباء وتأثيره على صحتهم الجسدية والنفسية وتداعياته على مختلف مناحي حياتهم.
بعد الخروج من هذه الأزمة، أو على الأقل اجتياز مرحلة الصدمة التي واكبتها، ستجد الإنسانية نفسها أمام نقاش عميق وجدي حول المبادئ التي تقوم عليها الروابط الاجتماعية، وهل جائحة كورونا ساهمت في تقوية هذه الروابط أم أنها على العكس قامت بإضعافها. ما يدفع لهذا النقاش الحتمي هو أمرين. أولهما، ما فرضته كورونا من تفكيك نموذج “القرب” الذي ظل سائرا لعقود و”التواصل الاجتماعي” الذي كان مخبوزا في النظام العصبي للمجتمع، قبل أن تحل محله قواعد “التباعد الاجتماعي” والتي سوف تظل قائمة لوقت طويل. ثانيهما، التناقض في بعض السلوكيات التي أظهر عنها المجتمع. فمن ناحية، أبانت هذه الجائحة عن أهمية المشترك في حياتنا المجتمعية، وأظهرت روح التضامن الذي رأينا صوره متجسدة في التبرع في صناديق الجائحة أو تقديم المساعدات للفئات الهشة. لكنها مثلما أظهرت أحسن ما في الإنسان، فهي أظهرت، أيضا، أسوأ ما فيه، خاصة في ظل التهافت على اقتناء المواد الاستهلاكية وتكديسها في المنازل، وغيرها من السلوكيات التي لم تفرق بين شعوب الدول المتحضرة وشعوب الدول “المتخلفة”، دون مراعاة للشريك في الوطن، واستغلال الظرفية لاحتكار بعض المواد والرفع في الأسعار.
لقد تغيرت الكثير من الأشياء من حولنا، وهذه التغيرات سوف تجعل المجتمعات، بعد اجتياز هذه المحنة، تعيد ترتيب أولوياتها، وتقييم الروابط الاجتماعية التي تجمعها، واستحضار كل القيم الإنسانية وأخلاقيات المواطنة التي يجب أن تكون من أساسيات المجتمع وليس فقط خيارا مرحليا يتم اللجوء إليه كلما زاد الخطر أو اشتدت الأزمات.
نقلا عن جريدة الأهرام، 7 مايو 2020.