في غضون أسابيع قليلة شهد العالم تفجيرا إرهابيا في تونس، وعملية طعن في باريس، وتفكيك خليتين ارهابيتين مواليتين لتنظيم “داعش” في المغرب، وعنف هنا وهناك، ما يعني ان خطر الارهاب لا يزال قائما، وانه عائد من جديد بعد استراحة قصيرة فرضتها جائحة كورونا، التي فاقمت الأوضاع الأمنية في بعض الدول ومن المرجح أن تستمر في ترك تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة في اغلب انحاء العالم.
يستثمر الارهاب في هذه الظروف لإعادة ترتيب أوراقه وآليات استقطابه وتجنيده لعناصر جديدة، مستغلا حالة الهلع وعدم اليقين التي أوجدتها المخاوف والمظالم المتعلقة بالجائحة ضمن حملاته الدعائية الإلكترونية. وعلى الرغم من انهيار ما يسمى بـ “خلافة” تنظيم “داعش” ومقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، إلا أن التهديد الذي يشكله سواء على المستوى الأيديولوجي او العملياتي لا يزال عالميا وقويا.
عملياتيا، لايزال التنظيم عبر مقاتليه وخلاياه النائمة يحاول استغلال الفراغ السياسي والأمني في سوريا والعراق من أجل إعادة تمركزه بثقة أكبر. وفروع التنظيم باتت منتشرة بشكل أكبر في شرق وجنوب اسيا، وفي اليمن وليبيا وأجزاء من أفريقيا – تشمل جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزامبيق. بينما ازدادت طموحات ما يسمى “الدولة الإسلامية في ولاية غرب أفريقيا” في نيجيريا، وأصبح يشن هجمات باسم تنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”. اما ذئاب التنظيم المنفردة فأصبحت تقوم مقامه في زرع الخوف في العالم بإمكانياتها الذاتية وعملياتها المحدودة. اما أيديولوجيا، فلا يزال التنظيم قادرا على اقناع الاف المتعاطفين والداعمين بأفكاره المتطرفة، مستغلا في ذلك المظالم الاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية التي يمر منها العالم بشكل عام.
ما يغذي الإرهاب ويتركه قيد الحياة هو استمرار انتاج الأسباب المختلفة التي تقود إليه محليا وعالميا، ما يعني انه ورغم كل الجهود المبذولة في القضاء عليه، فإنه سيستمر لأجيال، وسيواجه المجتمع الدولي مخاطر على المدى القصير والمتوسط والبعيد. على الرغم من كل التحذيرات، لايزال العالم يصر على معالجة الظاهرة في بعدها الأمني ويتجاهل معالجة أسبابها استباقيا ما يجعله يعيد انتاج نفسه كلما كانت الظروف مناسبة.
إذا كانت المظالم الاجتماعية والفقر والاقصاء والتهميش هم أحد أهم دوافع التطرف الذي يقود الى الارهاب، فإن السياسات الاستعمارية والاسلاموفوبيا واتهام الإسلام، دون وجه حق، بأنه مصدر أزمات العالم وسبب مشكلاته، هم أيضا ضمن أسباب تفشي التطرف والعنف بصورة متزايدة، خاصة، في الغرب. وقد ربط عدد من المختصين الغربيين بين التصرفات المتطرفة في الغرب مع آلام حقبة ما بعد الاستعمار، وتفاعل الشباب مع القضية الفلسطينية، ورفضهم التدخلات الغربية في الشرق الأوسط، وإقصائهم داخل مجتمعات غربية عنصرية ومعادية للإسلام.
العداء للإسلام هو قضية قديمة جديدة تستغلها الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية من أجل تكريس الخوف من الإسلام والمسلمين وتوظيفه لغايات انتخابية. وهذا ما فعله تحديدا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي صرح، قبل أيام، بأن الإسلام يعيش أزمة في كل مكان في العالم، وأن على فرنسا التصدي لما وصفها بـ “الانعزالية الإسلامية”، معتبرا أن المسلمين في فرنسا والغرب عموما يتجهون لبناء مجتمعات ثقافية خاصة بهم غير قابلة للاندماج بالثقافات الغربية. واعتبر هذا الامر خطيرا وقابلا للتراكم الى درجة الانفجار. ودعا الى ضرورة منع انتشار الخصوصيات الثقافية الإسلامية بين المسلمين العاملين المقيمين في البلاد الغربية ومنها فرنسا.
يحاول ماكرون من خلال هذا الخطاب العنصري التودد لليمين المتطرف خاصة وان الانتخابات الرئاسية على الأبواب، لكن ما سقط سهوا او عمدا عن الرئيس الفرنسي هو ان هذا النوع من الخطابات واستخدام مصطلحات عنصرية مثل “التشدد الإسلامي”، و”النزعة الإسلامية الراديكالية”، و”الانفصال الإسلامي”، لن يسهم في منع إقامة ما يراه “نظاما ثقافيا موازيا” ترفضه فرنسا، بل سيكرسه أكثر وسيفسح المجال لزيادة التطرف بين الأوساط المسلمة في الغرب، خاصة، وأنها باتت متهمة في انتمائها الديني بغض النظر عن سلوكها المعتدل او المتطرف.
إن العلاقة بين الإرهاب وبين خطابات الكراهية ضد المسلمين ومشاكل الهوية التي يعانون منها بسبب الأداء الغربي (الفرنسي تحديدا) السيء تجاه سياسات الاندماج وماضيها الاستعماري، أو الأخطاء السياسية التي سبق وارتكبتها بعض دول الغرب في العالم الإسلامي، هي علاقة سببية، ان لم ينتبه لها الغرب ويقوم بمراجعاتها فلن يهدأ العالم من ضجيج الإرهاب ولا من ماكينة الحرب ضده.
الدوافع التي تقود الى التطرف والعنف في العالم قائمة وفي تزايد مستمر والظروف الكامنة متوفرة لبقاء مسار الإرهاب قائما لفترة طويلة سواء على شكل تنظيم “داعش”، أو “القاعدة” او غيرهم من التنظيمات والتحالفات المتعددة الجماعات مثل “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، أو على شكل تنظيم جديد ربما سيظهر مستقبلا بتسمية مختلفة وبأيديولوجية موغلة في التوحش. ولإيقاف هذا الزحف المخيف، على العالم ان يراجع سياساته، ويعالج مظالم ومشاكل شعوبه، ويتوقف عن إعادة تدوير خطابات كانت سببا بالأمس فيما وصل إليه العالم من تشدد وعنف، وكفيلة، اليوم، بالقضاء على أي تعايش سلمي بين الشعوب وبين أبناء الشعب الواحد.