هناك نوعان للتسرب من التعليم، النوع الأول يتمثل في العزوف نهائيًا عن الالتحاق بالمدرسة في السنوات الإلزامية من مرحلة التعليم الأساسي. والنوع الثاني من التسرب يتمثل في الانسحاب من المدرسة وترك التعليم في إحدى سنواته من مراحله الإلزامية أو غير الإلزامية، وعلى مدار السنوات القليلة الماضية تضاعفت نسب التسرب من التعليم، خاصة بين الإناث مقارنة بالذكور، ولهذه الظاهرة عواقب وتداعيات وخيمة تحتاج إلى بحثها، واقتراح سبل إدارتها وتحجيم تفاقمها.
فجوة تسرب الفتيات
بشكل عام، نجحت مصر في خفض معدلات التسرب من التعليم على مدار الخمس سنوات الماضية، بيد أن نسب تسرب الإناث سجلت تراجعًا أقل من نسب تسرب الذكور. فبينما كانت نسب التسرب بحسب النوع متساوية عام 2018، تفاوتت النسبة لصالح الذكور حتى عام 2021، وتعددت أشكال فجوة تسرب الفتيات، وازدادت النسبة عامًا بعد آخر، واتسعت الفجوة عبر المراحل التعليمية العليا خلال العام الدراسي الواحد مقارنة بالمراحل الدنيا، وفق ما جاء بكتب الإحصاء السنوي الصادر عن وزارة التربية والتعليم، الأشكال (1)، و(2).
شكل (1): انخفاض نسب التسرب من التعليم بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية في الفترة من 2018-2021
شكل (2): ارتفاع نسب تسرب الإناث مقابل الذكور في المرحلة الإعدادية بين عامي 2018 – 2021
على الصعيد الجغرافي، توضح خريطة التسرب من التعليم عبر المحافظات تباينًا واضحًا سواء فيما بين المحافظات وبعضها أو فيما بين المرحلتين الابتدائية والإعدادية داخل المحافظة الواحدة، بينما تنخفض نسب تسرب الإناث بالمرحلة الابتدائية في محافظة القاهرة، ويسجلن 0.15% مقارنة بالذكور 0.22%، وترتفع نسبتهن في المرحلة الإعدادية إلى 0،79% مقارنة بالذكور 0.64%. وبشكل عام تسجل محافظة مطروح أعلى نسب تسرب للإناث خلال العام الماضي في المرحلتين الابتدائية بنسبة 0.62%، والإعدادية بنسبة 2.72%، وتدلل نسب تسرب الإناث مقارنة بالذكور من بعد جغرافي على استبعاد ارتباط تصنيف ظاهرة التسرب بخصائص الريف أو الحضر شكل (3) و(4)، الأمر الذي يستوجب مزيدًا من البحث حول أسباب ضعف استجابة الفتيات إلى برامج وسياسات القضاء على هذه الظاهرة من التعليم المصري.
شكل (3) التوزيع الجغرافي: نسب التسرب (إناث وذكور) في المرحلة الابتدائية عام 2021
شكل (4) التوزيع الجغرافي: نسب التسرب (إناث وذكور) في المرحلة الإعدادية عام 2021
من جهة أخرى، باستقراء نسب التسرب المدرجة بالكتب الإحصائية الصادرة عن وزارة التربية والتعليم فيما بين عامي 2018 (بداية تطبيق نظام التعليم الجديد 2.0) والعام الماضي، يتضح ارتفاع نسب تسرب الإناث بالمرحلة الابتدائية في محافظات دمياط، الشرقية، مطروح، البحر الأحمر، شمال سيناء، وجنوب سيناء، كما هو موضح بالشكل (5). ويمكن أن يُعزى ارتفاع نسب التسرب في محافظتي دمياط والشرقية لوقوعها ضمن المناطق المحرومة من التعليم، حيث تضم محافظة الشرقية 135 منطقة محرومة من المدارس، بينما تضم محافظة دمياط 40 منطقة محرومة من المدارس، وفق ما جاء بالتقرير الصادر عن هيئة الأبنية التعليمية عام 2020. وعلى النقيض لا تنصرف هذه الأسباب إلى محافظات مطروح، والبحر الأحمر، وشمال سيناء، وجنوب سيناء، مما يعني ضرورة بحث أسباب عزوف الفتيات عن التعليم وارتفاع نسبة تسربهن في المرحلة الأولى من التعليم بتلك المحافظات.
شكل (5): ارتفاع نسب تسرب الإناث بالمرحلة الابتدائية في بعض المحافظات 2018-2021
وقد رصد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عشرة أسباب خلف ظاهرة التسرب من التعليم وفق ما جاء في إحصائية تعداد السكان عام 2017، وهي بالترتيب من النسبة الأعلى للأقل: عدم رغبة التلميذ في التعليم، عدم رغبة الأسرة، الفقر، تكرار الرسوب، الزواج المبكر، صعوبة الوصول للمدرسة، العمل المبكر، وفاة أحد الوالدين، الإعاقة، انفصال الوالدين. ويلاحظ أن الزواج المبكر يحتل المركز الخامس من بين أسباب التسرب من التعليم.
تداعيات محتملة
في ضوء ما تقدم، ثمة تداعيات مرتبطة بارتفاع نسب تسرب الإناث من التعليم وخاصة بالمراحل التعليمية العليا، يمكن استعراضها على النحو التالي:
- تفاقم نسب التسرب: يمكن التنبؤ بزيادة نسب التسرب من التعليم بشكل عام في ظل القيود النفسية التي تفرضها بعض مناهج نظام التعليم الجديد على التلاميذ، وبالأخص مواد العلوم والرياضيات، التي لا يتناسب حجمها والخريطة الزمنية للعام الدراسي، وإذا ما كانت رغبة التلميذ في التعليم تمثل السبب الأول في التسرب من التعليم وفق ما جاء في إحصائية تعداد السكان الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2017، فإن قرار الوزارة بتدريس مناهج العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية بدايةً من العام القادم حتمًا يمثل عبئًا نفسيًا إضافيًا، وقد يؤدي إلى عزوف التلاميذ عن التعليم، وبالتالي زيادة نسب التسرب بشكل عام، ولا سيما الفتيات.
في سياق متصل، تخلق بعض القرارات الوزارية دوافع مباشرة للتسرب، مثل قرارات ربط تحصيل المصروفات الدراسية باستلام الكتب، والتي تم تطبيقها العام الماضي، وقرارات ربط تحصيل المصروفات الدراسية بالقيد بالتعليم والتي يتم تطبيقها العام الجاري. لذا من المهم بحث آثار تلك القرارات وتداعياتها على التسرب من التعليم قبل إصدارها أو تطبيقها.
- تفشي ظاهرة الزواج المبكر: بحسب أحدث دراسة حول الزواج المبكر، والصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس 2021، فقد بلغت أعداد الفتيات اللاتي سبق لهن الزواج ضمن الفئة العمرية (10-17 عامًا) أكثر من 117 ألف فتاة، بلغت نسبة المتسربات منهن من التعليم نحو 36%، ونسبة الأميات منهن بنحو 40%، وأكدت الدراسة أن 25% منهن كان السبب الرئيسي لتسربهن من التعليم هو الزواج المبكر.
وجغرافيًا تسجل كل محافظات الصعيد تزايدًا في نسب التسرب من التعليم بسبب الزواج المبكر، بالإضافة إلى محافظات الدقهلية، والشرقية، والجيزة، والبحيرة، وكفر الشيخ. الأمر الذي يفرض تعزيز جهود التوعية بأخطار الزواج المبكر على الصحة الإنجابية للإناث، وتخصيص برامج مناهضة العادات والتقاليد البالية المتعلقة بالزواج المبكر وزواج الأقارب وخاصة في بعض مدن صعيد مصر.
- تراجع التنمية: ما بين 15 تريليون – 30 تريليون دولار عالميًا هي قيمة الخسائر التي يخلفها تسرب الفتيات من التعليم وفق تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2018 بعنوان “ضياع الفرص: التكلفة المرتفعة لعدم تعليم الفتيات”، هذا بالإضافة إلى تراجع التنمية وخاصة عدم تحقق الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة (رؤية 2030)، والمتعلق بتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات.
ختامًا، تُطلق نسب تسرب الفتيات من التعليم جرس إنذار يستدعي المزيد من البحث والدراسة، وخاصة مع ما يترتب على هذه الظاهرة من تداعيات في مقدمتها الزواج المبكر وما ينتج عنه من إنجاب مبكر وزيادة في الخصوبة والنمو السكاني بشكل عام، الأمر الذي يعيق خطط التنمية المستدامة، ويهدد مستقبل الأجيال القادمة.