على الرغم من إمكانية تفهّم الأسباب التي تدفع الإدارة الأمريكية الجديدة للعودة إلى اتفاقية باريس لتغير المناخ، ولاستئناف العضوية في منظمة الصحة العالمية؛ إلا أن الرغبة في التراجع عن كافة المواقف التي اتخذتها إدارة الرئيس “ترامب” حيال العديد من القضايا الدولية تحت دعاوى عدم سلامتها، أو أنها أثرت سلبًا في مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية وفي مكانتها وريادتها العالمية، لا يجب أن تؤدي إلى محاولة إعادة إحياء السياسات التي طبقتها إدارة “أوباما” في التعامل مع العديد من قضايا السياسة الخارجية ومع إيران تحديدًا، خاصة أن الشخصيات التي تتولى مسئولية الملف الإيراني في الإدارة الأمريكية الجديدة هي نفس الشخصيات التي كانت تتولى هذا الموضوع في إدارة الرئيس “أوباما”، بمن فيهم “أنتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي الجديد، و”وليام بيرنز” رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، و”جاك سوليفان” مستشار الأمن القومي، و”روبرت مالي” المبعوث الخاص بشأن إيران في الإدارة الأمريكية الجديدة.
فمع كل ما يقال عن أهمية الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ في احتواء طموحات إيران النووية، إلا أنه من الثابت أن عددًا من القضايا الهامة قد تم -آنذاك- تجاهلها، وكان من الواجب أيضًا التوصل إلى معالجة متكاملة لها، ومنها برنامج إيران للصواريخ الباليستية، وما تمثله سياساتها من تهديد لأمن الخليج ولأمن إسرائيل، وأيضًا لمجمل الأوضاع في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلًا عن دعمها للإرهاب، وسجلها في انتهاك حقوق الإنسان؛ إذ إن الاعتقاد بأن سياسة الـmaximum pressure التي طبقتها إدارة الرئيس “ترامب” على إيران لم تحقق الأهداف المنشودة منها، مردود عليه بأن الاتفاق النووي مع إيران قد سمح لها بتوسيع نطاق تواجدها ونفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما منح إيران الفرصة لتطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية وتكثيف تهديداتها لدول الخليج ولإسرائيل أيضًا.
ويزيد من بواعث القلق الإقليمية ما نشهده من تسرع أمريكي في تقديم حوافز مجانية لإيران دون التحقق من قدرة نظام الحكم الثيوقراطي الذي يجسده المرشد الأعلى “علي خامنئي” ومعه الحرس الثوري، على التراجع عن الإنجازات التي حققتها إيران منذ عام ٢٠١٨ اتصالًا ببرنامجها النووي، والتي تتطلب تفكيك وحدات الطرد المركزي الجديدة، ووقف عمليات تخصيب اليورانيوم، والتخلص من مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب. ففور إعلان وزير الخارجية الأمريكي رفع حركة “أنصار الله” المعروفة باسم جماعة الحوثيين من قائمة الإرهاب؛ كثّفت تلك الجماعة من هجماتها الصاروخية ضد السعودية، وأعلنت مسئوليتها عن الهجوم بطائرة مسيرة مفخخة على مطار أبها السعودي، كما صعّدت من هجومها من أجل السيطرة على مأرب (آخر معاقل الحكومة اليمنية الشمالية)، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن الإدارة الأمريكية الجديدة ارتأت، في إطار التغير الذي أحدثته في تعاملها مع طموحات إيران النووية، الإقدام على تلك الخطوة دون الحصول على مقابل، وهو ما يشجع جماعة الحوثيين على الاستمرار في سياساتهم دون تغيير، بما في ذلك رفض التعاون من أجل معالجة أزمة ناقلة البترول FSO Safer الراسية قبالة الميناء البحري في رأس عيسى بالقرب من ميناء الحديدة، حيث ترفض “الجماعة” السماح للأمم المتحدة بالصعود إلى السفينة، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون برميل من البترول الخام يمكن أن تتسرب إلى البحر الأحمر، مما دفع الأمم المتحدة إلى التحذير من “عواقب بيئية وإنسانية كارثية” يمكن أن تؤثر على مجمل الأوضاع في باب المندب وعلى أمن البحر الأحمر. ويلاحظ أيضًا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُصعّد من ردود أفعالها على الهجوم الصاروخي على القاعدة العسكرية الأمريكية في أربيل يوم ١٥ فبراير من قبل إحدى الجماعات الموالية لإيران والذي تكرر لاحقًا.
كما أقدمت الإدارة الأمريكية الجديدة على تقديم حوافز إضافية لإيران، حيث سحبت طلب إدارة “ترامب” من مجلس الأمن والذي كانت قد تقدمت به في سبتمبر الماضي لإحداث “عودة سريعة” snapback للعقوبات على إيران، كما قامت أيضًا بتخفيف القيود التي فرضتها إدارة الرئيس “ترامب” على تحرك الدبلوماسيين الإيرانيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة. وأكد الرئيس “بايدن” في بيانه أمام مؤتمر ميونخ للأمن الاستعداد الأمريكي لاستئناف المشاركة في مفاوضات مع مجموعة 5 + 1، التي تتشكل من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا إلى جانب إيران، بشأن برنامج إيران النووي، وأن الولايات المتحدة ستقبل دعوة من الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي لحضور اجتماع لتلك المجموعة لمناقشة العودة إلى الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥.
وعلى الرغم من تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية، وأنه إذا عادت إيران إلى احترام التزاماتها الواردة في اتفاق عام ٢٠١٥، فإن الولايات المتحدة ستفعل الشيء نفسه؛ إلا أنه من الواضح أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد أسقطت الجانب الأكبر من الشروط الاثني عشر التي كان وزير الخارجية السابق “بومبيو” قد حددها في خطابه أمام مركز أبحاث “هيرتيج فوندايشن” Heritage Foundation في واشنطن في ٢١ مايو ٢٠١٨، والتي كان يجب على إيران الالتزام بتنفيذها حتى يمكن للولايات المتحدة الأمريكية العودة لاتفاقية عام ٢٠١٥، التي اشتملت ضمن جملة أمور، على قيام إيران بوقف تخصيب اليورانيوم، وعدم السعي إلى إعادة معالجة البلوتونيوم، وإغلاق مفاعل الماء الثقيل، وتجميد برنامج إنتاج الصواريخ الباليستية، وإنهاء الدعم الإيراني للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، بما في ذلك “حزب الله” اللبناني، وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينيتان، ومليشيات الحوثي، وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وسحب القوات الإيرانية من سوريا، ونزع سلاح المليشيات الشيعية في العراق، وإنهاء التهديدات الإيرانية لجيرانها ولإسرائيل، ووقف الدعم الإيراني لحركة الطالبان، وإنهاء إيواء كبار قادة تنظيم “القاعدة”.
كما تتصل بواعث القلق أيضًا بسعي الرئيس “بايدن” إلى اجراء مثل هذا التغيير الضخم في السياسة الأمريكية تجاه إيران قبل إجراء مراجعة داخلية كاملة للموقف، إذ عادةً ما تقضي الإدارات الرئاسية الجديدة التي تفكر في إجراء تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية عدة أشهر في التشاور مع الحلفاء ومراجعة المعلومات الاستخباراتية، وكانت إدارة “ترامب” قد قامت بمراجعة لمدة ٩٠ يومًا للاتفاق النووي مع إيران استمرت من أبريل إلى يوليو ٢٠١٧، وقد أجل الرئيس “ترامب” الانسحاب من الاتفاقية النووية لمنح الفرصة للعمل مع القادة الأوروبيين ومع الأطراف الإقليمية المعنية ومع أعضاء الكونجرس إلى أن انسحب “ترامب” من الاتفاقية في ٨ مايو ٢٠١٨. وعلى النقيض من ذلك، ودون إجراء أي مراجعة داخلية، ومع بضع مناقشات موجزة فقط مع عدد من المسئولين الأوروبيين، تخطط الإدارة الأمريكية الجديدة لتغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، على الرغم من أن الرئيس “بايدن” لم يمضِ في منصبه سوى فترة زمنية قصيرة للغاية لم يتحدث خلالها مع الأطراف الإقليمية سوى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، مما يجعل هذا الأمر أكثر إثارة للقلق، خاصة وأن إيران تبدو أكثر خطورة على المنطقة والعالم مما كانت عليه عندما كان “بايدن” نائبًا للرئيس.
ويبدو أن الجانب الإيراني يستغل الاندفاع الأمريكي الواضح من أجل الحصول على المزيد من التنازلات، والتي تتركز في المطالبة برفع العقوبات الأمريكية، والسماح لإيران باستئناف تصدير البترول، وإزالة تجميد الأرصدة المالية الإيرانية في الخارج، كما كثفت إيران من تهديداتها بإمكانية رفع درجة تخصيب اليورانيوم إلى ما يقرب من ٦٠٪، وهي أمور تستدعي من الإدارة الأمريكية الجديدة إعادة تقييم الموقف بقدر من الموضوعية، بعيدًا عن محاولة إثبات سلامة السياسات التي طبقها “أوباما”، وعن هوس التراجع عن كافة السياسات التي طبقتها إدارة “ترامب”، مع تكثيف التشاور مع مختلف الأطراف الإقليمية في المنطقة حتى يمكن تجنب الوقوع في أخطاء تضاف إلى الأخطاء التي اقترفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في منطقتنا، ومنها غزو العراق، وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي اشتمل على سياسات استهدفت تغيير نظم الحكم في عدد من الدول العربية من خلال تدخلات عسكرية وسياسية أمريكية وأوروبية أدت في النهاية إلى دخول المنطقة بأسرها في مرحلة خطيرة من عدم الاستقرار، وإلى خلق أزمة للاجئين والنازحين تعد الأكبر التي يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.