في 21 أغسطس الماضي، أعلن طرفي الصراع في ليبيا (حكومة الوفاق والبرلمان الليبي)، في بيانين منفصلين، وقفا لإطلاق النار في كل الأراضي الليبية، مع دعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية، واستئناف الإنتاج والتصدير في الحقول والموانئ النفطية، على أن يتم إيداع الإيرادات في حساب خاص بالمؤسسة الوطنية للنفط لدى المصرف الليبي الخارجي.
إعلان الهدنة المفاجئ يأتي بعد الموقف المصري وما واكبه من سلسلة تحركات دولية ومبادرات إقليمية لاحتواء الازمة. والاعلان يمثل تطورا إيجابيا في هذا الصراع الذي تتحكم فيه قوى خارجية إقليمية ودولية. لكن وعلى أهمية الاتفاق الا انه لا يمكن اعتباره انتصارا سياسيا مادام محاطا بمجموعة من العراقيل التي يمكن ان تحول دون قدرته على الصمود، مثل سابقيه. فكل الاتفاقيات والمبادرات والمسارات التي طرحت منذ اتفاق الصخيرات، في المغرب عام 2015، وحتى الآن لم تنجح في وقف دائم لإطلاق النار، وإعادة الاستقرار الى ليبيا، وأخفقت في حلحلة الأزمة التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم.
بناء على هذا الواقع وبالنظر الى ما يتميز به الملف الليبي من تعقيدات ومن تعدد المتدخلين، سيكون تطبيق وقف إطلاق النار وتنظيم انتخابات مسارا محفوفا بالمخاطر، وبارقة امل مهددة بالانتكاسة، مادامت المصالح الخاصة للفاعلين الداخليين والدوليين قادرة على احباط المحادثات في أي لحظة. كما سيكون من المبالغ فيه التفاؤل كثيرا بخصوص استدامة الهدنة، في ظل استمرار الطائرات التركية، مباشرة بعد اعلان الاتفاق، في الهبوط في مصراته وهي محملة بالمرتزقة والسلاح.
تركيا لها مخطط كبير في المنطقة يتمثل، كما بات معلوما، في خلق مجال حيوي خاصا بها يكون عابرا للحدود الليبية برا وبحرا. وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن أنقرة ستتنازل عن مطامعها بسهولة، من أجل استقرار ليبيا، حتى وان أعلنت ترحيبها بإعلان الهدنة. تركيا تجيد جيدا المناورة ولها تجارب لوقف إطلاق النار في سوريا. وهي تلعب ورقة الهدنة في كل مرة تحتاج فيه الى تهدئة لامتصاص الغضب الإقليمي والدولي بخصوص تدخلها السافر في البلدين.
بالإضافة الى ما سبق، هناك بعض النقاط الخلافية الشائكة التي يمكن ان توقف الاتفاق في أي لحظة، ومنها على الأخص مسألة المرتزقة والميليشيات، ونزع سلاح منطقتي سرت والجفرة التي لم يتم الخوض فيها بوضوح بين الطرفين. أمريكا وبريطانيا وألمانيا يدفعون في اتجاه “منطقة منزوعة السلاح” من أجل تقليص النفوذ الروسي والتركي على الأرض. السراج يقول انه يجب جعل سرت والجفرة منطقة منزوعة السلاح في سبيل تحقيق تقدم في الحوار. ورئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، فتحدث عن نزع سلاح سرت لم يتطرق لنزع سلاح الجفرة وقاعدتها الجوية. وقد اقترح تشكيل مجلس رئاسي جديد للحكومة، يشكل بديلا من مجلس السراج، يكون مقر عمله سرت. اما الجيش الوطني الليبي فقد قال، في اول رد فعل بعد اعلان الهدنة، بأنه مستعد للرد على أي محاولة للهجوم على مواقعه حول مدينة سرت الساحلية والجفرة في الجنوب، مؤكدا رفض قوات شرق ليبيا إعلان السلطات في العاصمة طرابلس وقف إطلاق النار، معتبرا المبادرة التي وقعها السراج هي “للتسويق الإعلامي”.
نقطة خلافية أخرى يمكن ان تعرقل مسار الاتفاق وهي مسألة الانتخابات. السراج يدعو الى انتخابات رئاسية وبرلمانية في مارس المقبل، لكن بيان صالح تحدث عن مجلس ثلاثي رئاسي مؤقتا، تتمثل فيه الأقاليم الثلاثة برقة وطرابلس وفزان لفترة انتقالية تمتد من 18 الى 24 شهرا، تجرى بعدها الانتخابات.
كل هذه العراقيل وغيرها يمكن ان تنسف اعلان الهدنة في لحظة، وستحتاج فقط من يحركها أو يلعب بخيوطها لتقوم الحرب. لكن الامل كل الامل في وعي الاخوة الليبيين بخطورة المرحلة، وادراكهم بأنهم فعلا وصلوا الى القعر الذي لا يوجد بعده طريق للعودة. فإما الانتصار للوطن واعلاء لغة الحوار على ماكينة الحرب، ومنع التدخل الخارجي الذي يعرض الأمن الليبي والإقليمي العربي للمخاطر. واما الاستسلام لمطامحهم الشخصية والاطماع الخارجية التي ستقود الى الخراب الكامل والتقسيم ونهب ثروات ليبيا وتجويع شعبها.
كل الأطراف الليبية مطالبة اليوم بتقديم تنازلات. هم امام اختيار صعب، وعليهم تحمل مسؤولياتهم الكاملة أمام الشعب الليبي وامام التاريخ. امامهم فرصة لتجاوز كل خلافاتهم والقيام بخطوات عملية لتنفيذ الاتفاق، ومنها الجلوس مرة أخرى الى طاولة الحوار -دون اقصاء لاي طرف ليبي- تحت اشراف الأمم المتحدة، وبما يتوافق مع اتفاق الصخيرات ومخرجات مؤتمر برلين، وإعلان القاهرة، من اجل الوصول إلى التسوية السياسية الشاملة التي تحفظ لليبيا سيادتها ووحدة أراضيها، وتحقق تطلعات شعبها في الأمن والاستقرار.
والوصول الى هذه التسوية يمر أولا عبر ترحيل جميع القوات الأجنبية والمرتزقة الموجودين على الأراضي الليبية، واستئناف تام للإنتاج في كل البلاد وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية للاتفاق على آلية عادلة وشفافة لتوزيع إيرادات النفط وتحسين إدارة المؤسسات الاقتصادية والمالية الليبية، والذهاب الى انتخابات تعيد الاستقرار الى ليبيا والمنطقة.
نقلا عن جريدة الأهرام، 27 أغسطس 2020.